سراب السلاح النووي العراقي

عماد خدوري

مي مظفر

30 ديسمبر 2003   

 

قامت الحرب الأخيرة على العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل. قامت الحرب لأن العراق، حسبما صرح رئيس الولايات المتحدة وأكد رئيس وزراء بريطانيا مازالت تمتلك أسلحة دمار قادرة على زعزعة أمن العالم ودك حصون أمريكا في عقر دارها. وذهب أنصار الحرب إلى أنه على الرغم من أن البحث عن هذه الأسلحة من قبل لجان التفتيش لم يسفر عن ما يثبت وجودها، فإن البحث عنها يجب أن يتم باستخدام القوة. وبعد احتلال العراق ونبش أرضه وبيوت أهله وقبوره وتحطيم بناه التحتية والفوقية، لم تعثر القوات الغازية على أي دليل. وبالتدريج تحولت مسألة أسلحة الدمار إلى مسألة ثانوية لاتكاد تذكر إلا في الرد على بعض التساؤلات التي ما زالت تطالب بتقديم الدليل على المبررات الأساسية للحرب التي تجاوزت كل منطق وكل قانون ناهيك عن المأساة الإنسانية المتواصلة.

قبل احتلال العراق في نيسان 2003م، ومع تصاعد حملة الادعاءات من أجل إيجاد المبررات لغزو بلد أنهكته الحروب واستنزفت طاقاته المادية والبشرية سنوات الحصار الداخلي والخارجي، كما استنزفت صبره، ومن خلال الغيوم الملبدة المربكة للإعلام الغربي الذي طغى على كل حقيقة مغايرة بما فيها التقارير التي صدرت عن هيئة التفتيش (محمد البرادعي وهانز بليكس)، بدأت تنطلق بين الحين والآخر ومضات مضيئة تكشف عن حقائق صادرة عن عالم عراقي رافق برنامج العراق النووي منذ نشأته حتى دماره، وكان على تماس مباشر مع جهازه الفعال طوال ثلاثين عاما. ذلك هو عماد خدوري المقيم في كندا منذ خمس سنوات، والذي كان يبث مقالاته العلمية من خلال شبكة الانترنت والصحافة الكندية.

وفي شهر أيلول (سبتمبر) 2003م أصدر عماد خدوري كتابا بعنوان "السراب النووي العراقي  Iraq’s Nuclear Mirage " الذي يفصل فيه حكاية البرنامج النووي العراقي: كيف نشأ لأغراض سلمية، ولماذا تحول إلى برنامج لصنع الأسلحة، ومتى انتهى، وذلك من خلال سرده لسيرته الذاتية التي ربطها بسيرة البرنامج النووي العراقي، كما لو كان الاثنان قدرين لا ينفصلان. وعلى الرغم من أن قضية الأسلحة هذه غدت أمرا مكشوفا لا غبار عليه، وأن الحرب كانت ستقع لهذا السبب أو لغيره، يأتي كتاب عماد خدوري بمثابة وثيقة تاريخية مهمة لا لكشف زيف الادعاءات التي قامت على أساسها حرب الخليج الثالثة فقط وإنما من أجل كتابة جانب من تاريخ العراق الحديث قد لا يستطيع التصدي له إلا من واكب مسيرة هذا الجانب العلمي المتقدم وأسهم في بنائه.

 في الفصل الأول من هذا الكتاب الذي يشتمل على مقدمة وسبعة فصول، يتحدث المؤلف عن المحافظين الجدد وجذورهم الفكرية، وكيف توصلوا للإمساك بإدارة الرئيس جورج بوش ودورهم في دفع السياسة الأمريكية الخارجية للسير في خططها العدوانية، وارتباطها بمصالح إسرائيل. ثم ينتقل للحديث عن دوائر الإعلام والتعريف بها وبمن يملكها ويمولها وعلاقتها بإسرائيل، وجهودها المنسقة مع الحكومة الأمريكية في تضليل الرأي العام بتضخيم الخطر العراقي.

في الفصول التالية يشرع عماد خدوري بسرد مراحل حياته منذ نشأته واستعداده للانخراط بالبرنامج النووي العراقي والالتزام به منذ نشأته حتى نهايته، مبينا "جهوده المتواضعة" كما يسميها، للتصدي للحملة الإعلامية المضللة التي ساندت احتلال العراق.

وعن مراحل دراسته، يعزو عماد خدوري تفوقه العلمي في المراحل الابتدائية والثانوية للنظام التربوي في العراق مشيدا بصرحين كبيرين كان لهما الفضل في تفوقه فيما بعد في دراساته الجامعية في أمريكا أولا ثم في بريطانيا. ومن خلال هذا الوصف وربطه بخلفيته العائلية وظروف نشأته يمنحنا صورة وافية عن طبيعة المجتمع وشكل الحياة، في ظل مؤسسات قامت منذ ثمانين عاما حتى سرى الفساد في أعضائها تدريجيا ليصل ذروة عنفه خلال سنوات الحصار، ثم ليتحول بعد الحرب الأخيرة إلى خواء بين ليلة وضحاها.

حصل عماد خدوري على شهادتي الباكالوريوس والماجستير في علوم الفيزياء من الولايات المتحدة الأمريكية (جامعة مشيغان 1961-1968) وخلال هذه السنوات اقترب من طبيعة المجتمع واصطدم بالقيم الأمريكية خاصة في مفهوم الصداقة، وأدرك "الوجه البشع للأمريكي"،  وخبر جوانب القسوة الكامنة والشعور بانعدام الأمان لدى الأفراد، وكلاهما، كما يذكر المؤلف، كان أداة استغلها المحافظون الجدد لتحقيق أهدافهم.

 لذلك فقد اختار جامعة برمنغهام (بريطانيا) لنيل شهادة الدكتوراه في تكنولوجيا المفاعل النووي، بعد أن تعرف إلى جعفر ضياء جعفر في بغداد وغدا نموذجه الذي يكن له كل الاحترام، وكان جعفر قد تخرج في الجامعة نفسها وبسنوات دراسية قياسية. وبعودته إلى بغداد ينضم إلى مركز الأبحاث النووية في التويثة. وفي هذا الفصل يتحدث عن عمله وعن اكتشافاته في البحث عن اليورانيوم تحت الأرض في أماكن متعددة من العراق.

ثم يتحدث عن البرنامج النووي وعن البدايات التأسيسية لبناء مشروع يهدف إلى خدمة الأغراض السلمية، ثم تغيّر هذا المسار بانعطافة كبيرة إثر العدوان الأسرائيلي على المفاعل النووي في عام 1981م. وكان عليه أن يعتمد اعتمادا كبيرا على جهود النخبة من علمائه، حسبما يذكر المؤلف، في الفصل الخامس الذي يحمل عنوان "القنبلة الذرية". غير أنه لم يستطع أن يحقق أكثر من 10 أو 20%  في أحسن أحواله للوصول إلى صنع سلاح نووى (ص122)، قبل أن يتم القضاء عليه، فلم يبق منه سوى أرشيف من الوثائق، وما هو مخزون في الذاكرة (205).

بدءا من حديثه المقتضب عن أبويه وعائلته، ومرورا بالتنويه بأساتذته ورفاقه الذين تركوا أثرا في حياته، ثم رفاقه الذين عمل معهم في الطاقة الذرية في العراق، يكشف عماد خدوري عن قدرة أدبية بارعة في وصف الأمكنة وتصوير الشخصيات ورسم أبعادها وإعطاء كل ذي حق حقه. فهو لا يبخل بالثناء على أصحاب الكفاءات العالية سواء في الجوانب التكنولوجية أو الإدارية، وبلغة يطغي عليها الاحترام الفائق خاصة حين يتحدث عن الذين كان لعلمهم وخبرتهم أكبر الأثر في بناء المؤسسة. كما لا يبخل بإظهار جوانب الخلل والمواقف السلبية لمن خبرهم في تجربته هذه، وهي مواقف أدت في كثير من الأحيان إلى أقصى حالات الأذى.  ونتابع معه بكل أسى هبوط هذه المؤسسة، شأن غيرها من المؤسسات، التي كانت نموذجية في هيكلها الأداري وكفاءتها الأدائية قبل أن تتنفذ فيها طاقات لم تكن بمستوى تولي مثل هذه المسؤوليات التي تتطلب معرفة علمية متخصصة لا انتماء حزبيا، وأجهزة مخابرات تتغلغل إلى حد الأمساك بخناق العاملين ومحاربة العلماء بتهميشهم أو سجنهم أو تشريدهم، إن لم يقض عليهم بسبب ادعاء أو وشاية. ولقد كان بفضل هؤلاء العلماء وخبرتهم أن أعيدت الحياة بمدة زمنية قياسية الى المرافق الحيوية التي دمرتها الصواريخ الأمريكية عام 1991م.

 كان عماد ضحية من ضحايا الوشايا الخطيرة، مع أنه كان أوفر حظا من غيره، كما يقول في الفصل السادس من الكتاب. إذ يصور لنا الأجواء الكابوسية والرعب القاتل الذى عانى منه خاصة عندما عزم على الهجرة مصطحبا أولاده. وهو وضع يدركه كل من عاش في العراق عامة، ومن تعرض لمضايقات جهاز المخابرات خاصة.  ولكنه لم يغفل عن ذكر الأصدقاء الذين حاولوا مساعدته، وقدر ظروفهم حين تراجعوا لدى اصطدامهم بالجدار الأسمنتي القاسي، مما اظطره في نهاية الأمر إلى أن يختار الطرق غير المشروعة، والتسلل من العراق في آب عام 1998م. وفي هذه الشهادة المفصلة تصوير دقيق لنظام حياة عاش سنوات تحت رحمة آلة قمع مرعبة.

هاجر عماد خدوري وعائلته إلى كندا مؤثرا الصمت والحياد. لكنه قرر العودة إلى دائرة الضوء عندما لمس من خطاب الرئيس جورج بوش،  في آب 2002م، ما ينبئ عن وجود حملة تتعمد الترويج لمعلومات خاطئة حول استمرار العراق ببرنامجه النووي، وأن ثمة جدية في التوجه لشن الحرب عليه. ولأنه أدرى بما آلت إليه أحوال العلماء الذين تحولوا إلى كيانات معطلة تبحث عن لقمة عيشها هنا وهناك، فقد قرر الرد على هذه المزاعم، بما فيها تلك المعلومات التي وردت على لسان بعض العلماء العراقيين الذين استطاعوا الخروج من العراق. فكتب مقالته الأولى التي لم تقدم على نشرها سوى صحيفة كندية, مما دفعه إلى ترويج مقالته هذه، ومقالاته اللاحقة عن طريق الإنترنت فضلا عن الصحيفة الكندية. وهناك فصل في الكتاب يشير فيه إلى هذه المقالات وكيف فند من خلالها كل ما كان يصدر من تصريحات رسمية مليئة بالادعاءات الباطلة.

لغة عماد خدوري في هذا الكتاب لغة كاتب متمكن قادر على الأمساك بالحدث والصورة، بارع في رسم ملامح الشخصيات وتصوير الحالات الأنسانية بأدق تفاصيلها كما لو كان كاتب رواية متمرسا. وهي لغة يتغلغل في ثنياتها حب كبير لوطن كان  بالإمكان أن يغدو في طليعة الدول لو أن حاكما أشد حكمة تولى زمام الأمور، ولو أن عدلا حقيقيا يسود العالم.

من يرى وضع العراق اليوم وهو يتخبط في سديمه كأنه لم يولد، لا يملك إلا أن يردد ما قاله الشاعر العربي قبل قرون:

ولو شاء أن أبكي دمًا لبكيتُه       عليه، ولكنْ ساحةَ الصبر أوسعُ