http://www.kitabat.com/i8943.htm

 11   تشرين الأول  5200

الركن البعيد الهادي في مقام السيّد حمد الله

كتابات - شلش العراقي

 

عندما نزح فلاحو جنوب العراق  في الخمسينيات إلى العاصمة بغداد ، شيّدوا مجمعات ريفية في أنحاء متفرقة حولها، وكان من بين تلك المناطق ما يطلق عليه الميزرة أو (العاصمة).

حيث عاش فيها القادمون الجدد ، حياة قاسية في صرائف لاتصلح حتى للاستخدام الحيواني.  ومن بين هؤلاء الناس كانت هناك عائلة يقال لها بيت(( سيّد حمد الله )).والسيّد النازح مع النازحين مازال يجر معه ثقله الاجتماعي بينهم،  فكان الرجل كأي سّيد "ابن رسول الله " محط احترام وتقدير الآخرين. وعندما توفي رحمه الله  تم تغسيله في (داره) ليشيّع بعد ذلك إلى مثواه الأخير في  النجف الاشرف .

جاء عبد الكريم قاسم ونقل هؤلاء الفقراء ، كما فعل مع غيرهم ، إلى مدينة الثورة ،هجرت الميزرة وأهملت واختفى اسمها الذي ربما كان مشتقا من المجزرة.

في نهاية السبعينيات  قامت الحكومة باستغلال المنطقة،  لبناء مجمع وزارة الداخلية وتوابعها , فجاءت المعدات الثقيلة لتعمل عملها ,ومن بين هذه الأعمال كان رفع أنقاض  الميزرة وتسوية الارض ,وهنا حدثت  المعجزة عندما تعطل البلدوزر وفشل في بلوغ بيت( السيّد حمد الله) كما استدل عليه احد العاملين في البلدية ،والذي كان من سكان المنطقة ,, جيء ببلدوزر  ثان وثالث،  لافائدة........ كلها تصاب بالعطل نفسه حال اقترابها من بقايا بيت السيّد حمد الله,,

البلدية وحرصا  منها على  بلدوزراتها وشفلاتها سّورت المكان وسمحت لمعداتها الثقيلة بالعمل قرييا من( بيت )السيّد دون أن تمسسه,

ومنذ تلك اللحظة  وبعد انتشار خبر الواقعة ، وما أضيف إليه من نتاج مخيلة شعبية فذة  تنتعش في الحروب والأزمات ،صار هذا المكان مزارا أطلق عليه(( مقام السيّد حمد الله)) وصارت الناس تحج إليه مشّيا  على الأقدام من مدينة  الثورة تحديدا، فعلى  طول الطريق الذي يوصل إليه،  بإمكانك أن تشاهد أمهاتنا المشاءات  ابداً وهن يرفعن رايات خضر باتجاه السيّد(ابو هاشم) كما يكنى تشفعاً

هذا المكان أثار لغطا كثيرا لدى المثقفين من رجال الدين وسواهم في المدينة، فمنهم من قال بصراحة: كيف نجعل من مكان تغسيل ميّت مزاراً مقدساً ؟ وقال آخرون ماهي أهمية السيّد العلمية أو الدينية ليكون مكان نجاسته مقاما، حيث كان رحمه الله كباقي أبناء جيله النازحين أميا لايجيد القراءة والكتابة ، ولم يبد في حياته أي نشاط مميّز يستحق هذه المكانة. المهم هذا الكلام لم يرق لأسرة المرحوم الذي منَّ الله عليهم بثروة  ماكانو ليحلموا بها . فسارعوا إلى بناء قُبّةٍ خضراء متواضعة ، وسوّروا المكان، وقامت الحكومة التي كانت قد دخلت الحرب مع إيران  بتبليط الشارع المؤدي إلى المقام, وأصبح المكان يتمتع بنوع من القبول الرسمي, بعدما اتسعت قاعدته الشعبية لما يشاع عن معجزاته الخارقة ، وأصبح مرهوب الجانب حتى  للسكارى من أبناء مدينة الثورة، وهم في طريق عودتهم من الباب الشرقي ( مقندلين )كانوا يلوحون للمقام بالسلام ، ناهيك عن الهورنات التي يطلقها السواق جيئة وذهابا  تحية للسيد ابو هاشم .

هذا ليس هو المهم هنا عن سيّد حمد الله.. فهذا السيّد الجليل الذي شكك منتقدو مقامه، في عدم أهميته في حياته, كان مهما في مماته.. كان مهما للعشاق من أبناء مدينة الثورة, حيث بطريقة وبأخرى يحق لنا أن نسميه(( إمام العشاق ))

نعم هو كذلك  .فإن لم يكن إمام العشاق فهو نصيرهم.. حيث لم تجد صبيات مدينة الثورة من مكانٍ الخروج إليه مبرر مع الأخوة الصغار أو الجدات العجائز، مثل مقام السيّد حمد الله..وهنا في هذا المقام كانت تضرب مواعيد الغرام، و في أروقته وما حولها يمكنك تسمع آهات اللوعة وتنهدات الشوق..فكانت أحداهن إذا طلب أليها حبيبها  لقاءاً( خاصة إذا كان قادما من الجبهة وإجازته قصيرة) ماعلى المسكينة إلى أن تستيقظ صباحا وتنادي على جدتها ( حبوبة البارحة بالحلم شفتج تعتذرين من سيّد حمد الله)

يُمه أبنيتي صدك؟!!!! لالالالا .... صار زمان مازرت ابو هاشم ...يلله يُمه  حضري روحج ومشينة )  خرجت الصبيّةُ برفقة حبوبتها (جدتها) التي تلطش بشباك السيّد حال وصولها معتذرة  عن تأخرها كل هذا الوقت ،  فيما الصبيّة تختلي بحبيبها في لحظات ....( لا ولم تُنسى)

عائلة السيّد حمد الله طيب الله ثراه،  عاشت عيشة جيدة ، من النذور والأضاحي  والهدايا ،خاصة في ذروة مجد السيّد أيام الحرب العراقية الإيرانية. اشترت العائلة بيتا حديثا خارج مدينة الثورة .التي لم تعد تناسب وضعهم المالي ..وكان جدار بيتهم الجديد في المنطقة الجديدة،  قد تلون هو الآخر بالحناء كما هو جدار بيتهم القديم، بأيدي الزائرين الذين تجُاب نذورهم،

 والصبايا من مرتادات المقام هنَّ أكثر من يلقين استجابة لدى السيّد ، حيث لطالما انتهت المواعيد الغرامّية  السريّة بزيارات علنية ،بعد أن أصبح العاشقان مخطوبين أو حتى متزوجين..

لكن المؤسف أن الحال لم تستمر طويلا مع عائلة السيّد،حيث القي القبض على  اثنين من أحفاده متلبسين بجرائم سرقة وسطو مسلح، وحكم على  احدهم بالإعدام ونفذ به هذا الحكم ، وبذلك تراجعت شعبية السيّد الذي (ماكدر يخلص ابن ابنه، شلون راح يخلص ولد العالم ،لا عيني نرجع لسيد محِمْد  سبع الدجيل أحسن) ..

لكن الصبايا مصرات على اتخاذه مزارا مقدسا،  ويبالغن في تلبيته للنذور ومعجزاته ، كي يبقين عليه- واحة للعشاق - ، إذ  لابديل مقبول من الناحية الاجتماعية في المدينة العشائرية غير مقام  السيّد. القريب والآمن نسبيا  ، حيث لايمكن السماح لفتاة  لوحدها أو حتى مع جدتها أو إحدى قريباتها بالذهاب إلى مكان بعيد ومزدحم

 الآن وبعد أن طغى حضور السادة الأحياء على الأموات، وبهتت نجوميتهم،أنا شخصيا..ذهبت  صباح هذا اليوم إلى مقام السّيد ..كان المكان شبه خال..ثلاث أو أربع عجائز يندبن  الدهر  وما آل  اليه مصير الأيام  , ويتمسكن بالشباك بقوة، و في الزاوية البعيدة صبيتان  جميلتان عاشقتان  تجلسان بارتباك ، فكلما سمعتا صوت سيارة قادمة,  طار قلبيهما نحوها  وتعلقت عينياهما بالطريق,,,,واحة العشاق في طريقها الى الجفاف ..

((في السنوات القادمة ... أو...في العقود القادمة ..  في زمن ما ..وعندما يذوي اثر السيّد حمد الله وينتهي الحديث عن معجزاته, سيأتي أحفادنا نحن الذين عشنا لحظات الغرام البريء في مقامه.. سيأتون إلى هذا المكان ليشيّدوا تمثالا للحب, تمثالا   كبيرا من الكريستال ,يرتفع وسط المدينة ,مكتوب على قاعدته البرونزية..هنا مقام دموع امهاتنا العاشقات ,هنا مثوى قصائد آبائنا العشاق ,توقفوا قليلا تسمعّوا تنهدات الصبايا المولهات ،هذه ليست زقزقة العصافير التي تسمعون، هذه اغنيات امهاتنا الممنوعات من الحب,هنا ترقد احلامهن الكبيرة ,هنا ماتت امنياتهن  وتيبست رغباتهن ..أما السيد حمد الله فانه لايرقد هنا ..تأكدوا انه ليس هنا.. انه وهم المحبين والعشاق ، الذين كانوا أحوج الناس إلى إمام يبثون اليه شكوى الهوى... أيها الزائرون ... هنا تحت أقدام آلهة الحب انثروا الورد والنعناع، لذكرى عاشقات لم يقطفنَّ وردة، عاشقات ذبلت أيامهن كالورد في سنوات العشيرة العجاف و أيام الميليشيات السوداء,, من اجلهن ومن اجل عشاقهن أقمنا هذا النصب ..كي لا يخنق الحب مرة أخرى))

 

Shalash70@hotmail.com