هـيـه يـهـل الـعـمـارة

كتابات - شلش العراقي


تنتدب (الكَوّالة) والتي تسمى باللهجة البغدادية (العدّادة) للفواتح ومجالس العزاء لتقوم بترديد مناقب المرحوم ومكارمه وشجاعته الباسلة وحزن الناس عليه واسفهم على فراقه الاليم باسلوب تتفطر له قلوب المستمعين ، ولان دور الكَوالات يتلخص في هذه المهمة ، فقد حفظن لاجل ذلك قصائد ولطميات ومطولات نعي ونواح كثيرة يرددنها في كل مرة ،ولطالما اختلطت على بعضهن الامور، فتحدثن عن شجاعة المتوفي ومواقفه البطولية المعروفة ثم ظهر ان المتوفى هو الحجية فطيّم وليس الزاير عبود .

ومن وجهة نظر (الكَوّالة) فأن جميع الموتى المرحومين، هم بنفس الدرجة من الشجاعة والكرم ومقارعة الاعداء وحماية الدخيل واجارة المستجير ونصرة المظلوم .وحتى (لاسامح الله) لو توفي عمي شناوة المعروف بكذبه وبخله وجبنه وخسته ، فسوف تكرر علينا الكَوّالة بطولات عنتر بن شداد وصولاته وتنسبها للمرحوم شناوة مقابل خمسة الاف دينار او اكثر قليلا .

في التسعينيات من القرن الماضي ،تنامى دور شريحة الكَوالات واتسعت الحاجة لخدماتهن حيث تناسل الشيوخ في مدينة الثورة واصبح عددهم اكثر من عدد الرفاق المناضلين، وفي ظل دولة رخوة ومتهالكة ، صار موت احدهم حدثا مشهودا، ترفرف فيه الاعلام (البيارغ) وتطلق فيه العيارات النارية وتنظم العراضات وتشتغل الهوسات وتلقى القصائد وتنحر الخراف وتنصب الخيم .واصبح مجلس عزاء الميت (الفاتحة ) تعبيرا عن المكانة الاجتماعية لذويه وهيبتهم بين الناس . وبالاضافة الى مهنة الكَوالة ، ولدت في مدينة الثورة مهنة جديدة ،لا اعتقد ان لها نظيرا في عالمنا اليوم ، وهي تشكيل فرق مهوسجّية ورداحين مأجورين ، يأتون مقابل مبلغ مقطوع في اليوم الثاني من مجلس الفاتحة، ينوحون ويلطمون ويصرخون على المرحوم ،الذي لايعرفون اسمه الثنائي ، ومن ثم يرفعون الاعلام وتبدأ العراضة والهوسات والاشعار ، كما لوأنهم من اتباع المرحوم وحاشيته ومن الذين غرقوا بخيراته وقد وصلهم خبر رحيله متاخرا، وبعد ان يتناولوا طعام الغداء الدسم ويقبضوا المقسوم ، يتفرقون الى سبيل حالهم ، اذا لم تكن هناك فاتحة اخرى بانتظار خدماتهم .واتذكر بهذه المناسبة فاتحة دواي صاحب اشهر عربة لبلبي قرب مركز التهذيب . حيث اقيمت له عراضة مهيبة اطلقت فيها عيارت نارية اكثر من حبات اللبلبي التي باعها في شهور، وقد رفعت بمناسبة موته اعلاما ملونة ورددت اهازيج تمجد بطولاته وجرأته التي فاقت بطولات روبن هود ، ومن باب اذكروا محاسن مواتكم اشهد امامكم ان المرحوم دواي كان شخصا جبانا رعديدا للحد الذي لم يدفع له عباس السكير ثمن كاسة اللبلبي مرة واحدة في حياته ، وفوق هذا كان يكيل له الشتائم ودواي يلوذ خلف جدره الساخن وعربته مرعوبا يستنجد بزوجته جليلة لتخلصة من مخالب عباس ابو العرَك. فمن اين جاء المهوسون بكل هذه الهوسات العظيمة التي من بينها مثلا :

*
ذلينه دواي خلافك . ومعنى هذه الهوسة بالعربي الفصيح (ان الذل اصابنا بعد موتك يادواي)

أسوق الى حضراتكم هذه المقدمة ، للحديث عن الاستقبال الحاشد الذي حظي به السيد ابراهيم الجعفري ، في مدينة العمارة قبل ايام ، حيث تصادف وجودي هناك .رفعت الاعلام وانتظمت الجموع في دوائر ردحت وهوّست للرجل وانشدت بحقه اهازيج تصلح لتمجيد بطل اسطوري وليس لطبيب فاشل جاء به القدر والهوسات الى رئاسة وزراء عراق محتل ،منهك وضعيف .

المهوسجّية والشعراء الذين تلوا قصائدهم والهتافون والمصفقون والمكمزون، جميعهم لم يسبق لهم ان عرفوا السيد الجعفري ، الذي ترك البلد مرغما قبل ربع قرن واختفى في ضباب المدن، حتى ظهر اسمه في وسائل الاعلام قبل اقل من ثلاث سنوات قضاها تحت حراسة الامريكان مختبئا في المنطقة الخضراء، ولم يقم الرجل اثناء هذه الفترة باي فعل بطولي يستحق هذه القصائد الرنانة التي تسرد وقائع خيالية عن مجابهته الاعداء ، ولي ذراعهم وبث الرعب والرهبة في نفوسهم ، فصدام والحمد لله اطاح به السيد جورج دبليو بوش وليس ابراهيم الاشيقر . اما عن مكارمه السخية التي تغنوا بها فلم نسمع يوما ان الرجل فتح خزائنه ووزع علينا معونة الشتاء ، وكل الذي ظهر منه في حادثة الجسر الشهيرة ، انه فتح تحقيقا لم تعرف نتائجه حتى الان ، وقام بفتح باب التبرعات للضحايا وتبرع هو شخصيا براتبه الشخصي في اصرار واضح على كره الراتب الحلال والعيش وعائلته المقيمة في لندن بدون مصرف .

اذن من اين جاءت هذه البطولات والمكارم ؟

الاخوان المهوسجية وبعد تدقيق وتمحيص في سجلاتهم وعبر معونة من بعض ابناء العمارة الكرام ظهر لي انهم ابناء تلك (الكَوالات) اللائي يحفظن الهوسات ويرددنها بحق الحجية فطيم والزاير عبود بنفس الحماس .والمصيبة هي ليست في هؤلاء الذين ادمنوا دبلوماسية الهوسات والردح امام مدير الناحية ومدير الشرطة مع التاكيد على انهم سيوف بتارة في يمين القائد .

المصيبة باعتقادي هي في السيد الجعفري نفسه ، الذي صدّق حاله كما كان صدام يفعل ايام تجبره وقام برد التحية باحسن منها ملوحا بيديه الكريمتين ليقدم بعد ذلك خطبة جنجلوتية من خطبه الطنانة تخللتها كلمة (سوف ) عشرات المرات .

رئيس حكومة تصريف اعمال لم يقدر على تصريف مجاري الثورة في سنة كاملة ، يعد اهل العمارة البؤساء بمشاريع تنموية عملاقة ، واهلنا في العمارة كعادتهم يردحون او بالاحرى يواصلون ردحهم الذي بدأوه في مطلع القرن الثامن الميلادي وهم مصرين عليه الى يومنا هذا ،ردحهم الذي اصبح علامتهم الفارقة ، وقيل قديما.

*
شلون ردحج يعمارة ... هيج وهيج