http://www.kitabat.com/i12560.htm

25  كانون الثاني 6200

الهجرة الى الاردن - 1

كتابات - شلش العراقي

 

احتشدت اسرة ال رحيمة في الصباح الباكر من هذا اليوم الشديد البرودة، لتوديع الابن البار شلش العراقي الذي قرر السفر الى  الاردن ،. حيث تقاطروا منذ الصباح الباكر الى دار عميد الاسرة ومؤسسها الحاج ارحيمة امد الله بعمره ، وقف الحاضرون في لحظة حزن وقنوط  ،وعندما ازفت لحظة الوداع ، تقدم الحاج رحيمة بقامته الباسقة وطلعته البهية و بخطوات مهيبة ، كما لو انه يخطو على صوت مارشال عسكري ، صعد درجتين من سلم البيت المتهالك ،تنحنح وبلع ريقه وحبس دمعته ليسمح للكلمات ان تجد طريقها في توديع اعز احفاده على قلبه واقربهم الى نفسه ، طفرت دمعة عنيدة من عينيه وارتجفت شفتاه وصعب عليه نطق الكلمات ،الامر الذي جعل جدتي الحجية تفقد تماسكها لتنطلق باتجاهي صارخة :

* واشلشاه وحبيباه وولداه .. عدمن امنتي ورحت يمة شلش يمة ...

انطلقت الاصوات المحبوسة في الصدور وتصاعد النحيب والبكاء حتى من اولئك الذين لايهمهم شلش من قريب او بعيد ، تذكروا احبابهم الذين شدوا الرحال خارج الوطن الحبيب ليعيشوا غرباء في ارض الله البعيدة ،

هدأ الحاج ارحيمة من روع النساء وهو يمسح عينيه بجفيته العتيقة ، وخاطب الجمع :

"اخوتي وابنائي واحفادي  ، يحق لي ان اعلن امامكم بكل صراحة بانني اليوم ، فقدت عزتي وهيبتي  ، بعد ان قرر اعز احفادي الى قلبي الغالي شلش (ببكاء)ان يتركني وحيدا ويسافر، واشهد امام الله وامامكم ان هذا الولد كان برا بي وبجدته المريضة (صرخت الجدة من جديد)

* واشلشاه وحبيباه وحفيداه

قاطعها الحاج ارحيمة  مسترسلا : "ان شلش لم يقصر يوما في طاعتي واحترام كلامي كما انه المسئول الاول عن اصطحابي للطبيب وشراء الادوية ، فيالغربتي ووحشتي  من بعده ، (تطلع الي وانا غارق بدموعي ) من لي ياشلش سواك ،الموت اهون علي من فراقك ،نزل الحاج رحيمة مكفكفا دموعه ليصعد محله عمي شناوة الذي حشرت خالتي صبيحة نفسها الى جانبه كأنها تلتقط معه صورة تذكارية ،

تنحنح شناوة  وقال : ايتها السيدات (صفقت صبيحة ورسمت على محياها القبيح ابتسامة عريضة) ولم تتوقف حتى زجرها الحاج ارحيمة ليستانف الساقط شناوة جنجلوتيته ،التي جاء فيها :

"لقد فاجأتنا حقا بسفرك ياولدنا شلش ، (طبعا هو اول واحد يدري وحجزي لعمان) فها انا ارتجف من راسي الى اخمص قدمي عندما ابلغتني خالتك صبيحة النبأ(هزت صبيحة راسها المصفح  مؤيدة كلامه) وقع الخبر علي وقع الصاعقة ، فقلت  لها يا صبيحة لاتمزحي ، هل حقا ما تقولين ؟ ، شلش يهاجر ، يا لوحشتنا يالخرابنا يا لمصيبتنا ،ثم اخذت اضرب  راسي بالحائط (صبيحة تضحك وتتطلع في عيون الحاضرين)واضاف شناوة :

"هكذا اذن ياقمر ال رحيمة تغادرنا الى المملكة الاردنية الهاشمية التي تشرفت في العمل فيها  من عام 1996 حتى عام 2000 ، اجل  ايها الاخوة (اضاف شناوة)لقد عملت فيها ،واين عملت فيها ايها السادة ؟ لاتذهب بكم الوساوس وتصدقون الاقاويل  بانني افترشت الارض مع صبيحة  نبيع صابون الركَي في  الساحة الهاشمية ، كلا والف كلا ، وبشرف صبيحة وعفتها وبكارتها (صبيحة تضحك) لقد عملت داخل القصور الملكية العامرة وهذا صبيحة تشهد على كل ذلك والله على ما اقول شهيد ، وقبل ان يترجل قال بصوت سمعه الجميع : شلش لاتهتم ، اذا جارت عليك الايام هناك او اذا اعتدى عليك واحد من اجلاف الاردن الحقراء،  اتصل بالديوان الملكي وقل لهم انا من طرف شناوة ابو الصابون وانت معليك  (دفعته صبيحة مزيحة اياه عن طريقها ونزل يتبعها ،)، بعد ذلك ايها الاخوة ،جاء دور صديقي عبد الرضا صديق العمر والسهر والطربكة ووقف لقراءة قصيدة كتبها المسكين  ليلطف الجوبهذه المناسبة، قطع قراءتها بعد بيتين فقط  حيث انهالت عليه النعل من كل حدب وصوب :

شلش ياشمعة الدار ياقالق الناس ........ يا صايع لنص الليل ياوسواس ياخناس

رايح تنصب بعمان يابواك ياعلاس ...... ياسكير ياطبال ... يانشال ياقفاص

 

اما خنجر الجار الحرباء الذي حدثتكم مطولا عنه ، فقد جاء مرتديا عباءة مبطنة بالفرو الثقيل . وقف على السلم ، حمد الله كثيرا واثنى عليه وصلى على نبيه المصطفى محمد وال بيته  الاطهار ثم قال : اما بعد  ،ايها الاخوة لم تنجب دربونتنا المباركة بل قطاعنا المقدس في تاريخهما ابنا بارا مثل شلش العراقي ، فقد كان هذا الشريف سندا  لي بل اخا ، وقف الى جانبي عندما كنت اقارع نظام صدام واجهزته القمعية ,(خنجر جان رفيق)وكان  والحق يقال يشد من ازري ويقوي عزيمتي ولطالما قال لي كلمته الشهيرة امض يا خنجر ونحن من خلفك ، فباسمي واسم اخوتي المؤمنين الثقاة احيي روحه الوطنية في الدفاع عن الدين والمذهب والوطن ، فهذا التقي العفيف الشريف الورع الذي كانت له صولات وجولات دفاعا عن الحق واهله ، لايحق له تركنا في هذه  المحنة ويختار الاردن مستقرا،  لكننا وبعد يأسنا من ارجاعه عن قراره ، للايسعنا الا ان نقول هنيئا للاردن ملكا و حكومة وشعبا  بك ياشلش العراقي ،

(اشتد تساقط المطر مع تصاعد نغمات خنجر ونزل الحالوب على الرؤس في مشهد احتفالي ملائكي قل نظيره تفرقت الحشود و تقدمت مني خديجة المعلمة بعيون دامعة  ودست في جيبي كاسيت فيه اغنية "اشوفك وين يمهاجر ... كلي بيابلد صاير،"

في لحظة خروجي من البيت ،تصاعد النحيب والبكاء والصراخ ،واحزنني مشهد جدتي التي التف حولها صغار العائلة وهي تفترش الارض وتنوح .

هرع شناوة الى سيارته التكسي ليحشرني وحقيبتي فيها وينطلق بي الى ساحة مظفر حيث رماني هناك . بعد ان انهال علي بالشتائم والسباب لكونني سببت خروجه في هذا المطر الشديد و قال يتوعدني : اذا عطلت سيارتي من وراك ياسافل والله اسحلك بنص الشارع ، ثم اضاف بصوته الاجش الكريه : روح  انقلع ياغراب من وراك حتى العراق انفكَر اطلع بلكي يصير براسنا خير

صراحة لقد جرحتني كلمات شناوة وحبست دمعة حارة في عيني من استفراد هذا لناقص بي في لحظة حرجة هي لحظة توديعي للحبيبة بغداد ، رمى حقائبي في الطين ودون ان يودعني استدار بسيارته وانطلق مسرعا .

* حقير ياشناوة يا حرامي ،منو باك  مصرف زيونة بالسقوط ، طيح الله حظك ياعار يارجل صبيحة ال....

 

وبعد طريق من المرارات والماسي والاهانات  وصلت عمان متعبا منهكا، وبدات اولى خطوات غربتي وتشردي  وسط دموع عميقة وحزن سماوي ،وتحت خيمة البرد الثقيل ، اسندت ظهري على السياج الحديدي للساحة الهاشمية .

نظرت حولي في ارجاء المدينة الغريبة   تجمعت كل غيوم الحزن فوق راسي ..نشف ريقي وتيبست شفتاي ، ياالهي هل هذه مدينة حقا، ام انها تمثال كبير للوحشة ، هل هذه هي عمان التي تعفن فيها اصدقائي طويلا قبل ان يهاجروا تحت نجوم الله البعيدة في القارات ،هل هذه مدينة ؟ ام انها حفرة الفارين من الحريق ؟ ، سقطت من عيني دمعة ساخنة على الرصيف الغريب، واظنها ستبقى ساخنة الى يوم القيامة .. دمعة ابدية  ساخنة  ستقول يوما ما :ايتها السماء الرحيمة تذكري عذاب العراقيين ....

 

shalash70@hotmail.com