المطر الأسود

د . ميسون البياتي

 

      هذه .. هي شهادتي على الحرب القذرة التي شاهدتها بعيني وكل حواسي ، والتي أوقعها كل العالم  الحر العادل القانوني الديمقراطي المتحضر، علينا كعراقيين عزل ، مغلوبين على إرادتهم ، يقودهم مجنون أوحى له بجنون عظمته .. نفس ذلك العالم ( الحر العادل القانوني الديمقراطي المتحضر ) .

      وهي شهادتي عن بلدي الذي تدمر ، وناسي الذين ماتوا او لحقهم ما هو أبشع من الموت ،  وعن نفسي التي ما عادت إلي منذ ذلك الحين .

أنا أعترف ، ربما الحياة تغيرت منذ ذلك الوقت ، لكنني أأوكد .. ميسون البياتي تغيرت أيضا ، غيرتها الحرب ، ولم تعد تلك الصبية الجميلة الحالمة المدللة ، أشياء كبيرة في داخلي إنكسرت ، ولن تعود مثلما كانت ، حتى لو بإرادة القادر الجبار نفسه ، الذي على كل شيء قدير  .

      وأنا أكتب ، يدفعني هاجس واحد للكتابة هو : لماذا إستخدم الأمريكان القوة الغاشمة ضد العراقيين في عملية إخراج صدام من الكويت ؟؟

هل الموت والدمار والخراب الذي وقع على المدنيين الأبرياء العزل كان ( ضروريا ) لجعل صدام ينسحب من الكويت ؟

وهل إلحاق الأذى الغاشم بالجيش العراقي المغلوب على أمره والخارج توا من حرب ( إحتواء مزدوج ) مع ايران ، قررتها الولايات المتحدة الأمريكية لسحق البلدين كي لا يشكلا خطورة تذكر على محمياتها النفطية في منطقة الخليج العربي ( ضروري )  ايضا ؟

      هل إلحاق الأذى الغاشم بالجندي العراقي الفرد المغلوب على أمره ، الذي لا حول له ولا قوة أمام أوامر قيادته العسكرية هو السبيل الوحيد لتحرير الكويت ؟

      وألم يكن صدام والقيادة العراقية صنائع أمريكية يأتمرون بأوامرها ؟ وأن الحكومة الأمريكية كانت بالتأكيد هي التي أوحت لهم بمخطط هذا العمل المجنون .. كي تجر المنطقة الى ويلات لا يتحسبون لها ؟؟

      الحكومة الأمريكية .. لو أرادت .. لكانت قادرة بالتاكيد .. أن تجر هذه القيادة العراقية الصنيعة .. الى مفاوضات خيمة صفوان .....  أو أي خيمة سواها  ، من دون اللجوء الى تلك  ( القوة المفرطة )  التي تعتبر بصقة كبيرة في جبين الإنسانية ، وبصقة كبيرة في شرف وجبين وعرض كل قوى الخير والمحبة والسلام على الأرض .

      ولا تدري وأنت تتأمل ألبومات صور تلك الحرب المهولة الإذلال ، الآن  وبعد مضي ما يقارب عقدين من الزمان ، كيف إرتضى العالم الفاسق الذي يتبجح بشعارات العدالة والحرية والإنسانية والديمقراطية ، أن يشترك في حلف من 33 دولة ليقوم  بهذه الجريمة الدولية ، فيغتالنا ، بحجة تحرير بلد هو الكويت ، عملية إحتلاله ( طبخت بليل ) وسوغتها لصدام كل الدول التي شاركت بتحريره بعد ذلك ، كل من طرفها الخاص وبأسلوبها المبتكر ؟؟

      يوم 1/ 8 / 1990 كنت أعمل مذيعة في تلفزيون العراق من بغداد ، بدأت العمل منذ الثامنة مساءا ، حتى الواحدة والنصف صباحا ، ثم أعادتني سيارة التلفزيون الى البيت .

      كنت منهكة من التعب ، والحمل في شهره الثاني يرهقني بشدة ، غيرت ثيابي وتكاسلت عن غسل ماكياجي ، تمددت في السرير ، وأظنها 5 دقائق مرت فقط ، حين سمعت زوجي ينادي : ميسون .. إصحي الوقت ظهر .. والدنيا مقلوبة وأنت نائمة .

       لم أهتم ،، منذ بداية حملي كنت معتادة على سماع هذا الموشح .. والنوم عندي عزيز بدرجة كبيرة ، إنقلبت في سريري ، لكني شعرت أن زوجي جالس بجانبي ، قال لي بلهجة غير معتادة : ميسون .. إصحي أرجوك .. الدنيا مقلوبة .. جيش العراق إجتاح الكويت .

 بين مصدقة ومكذبة ، فتحت عيني وقلت : شنو ؟؟

     قال : الجيش العراقي إجتاح الكويت ومنذ الصباح وحتى الآن ، تصريحات وبيانات ، والدنيا مقلوبة .

طبعا لم أصدق ، قفزت من السرير الى الراديو والتلفزيون ، فتحتهما ، وكانت الكارثة . زوجي يقول الحقيقة وهو لا يكذب علي .

قلت له : تقريبا لحد 2 صباحا كنت في التلفزيون ولم ألحظ أي شيء غيرعادي ، كيف إذن تم الإجتياح بعدة ساعات فقط ؟؟؟

بيتنا كان في المنصور ، خلف مطعم الساعة ، لبسنا على عجل وخرجنا الى الشارع ، الجو قائظ شديد الحرارة ، وأكثر من حرارة الجو إنفعالات الناس .

     ذلك اليوم لم يكن عندي دوام في التلفزيون .. ولكن في حدود الساعة 8 مساءا ، رن الهاتف ، إدارة التلفزيون خبروني : بسبب الوضع الإستثنائي ، غدا عندنا إجتماع في التلفزيون الساعة 9 صباحا .

     لن أكشف سرا مخفيا ، حين أقول إن دائرة الإذاعة والتلفزيون ، حالها حال غيرها من مؤسسات العراق ، كانت مليئة بعاهات وترهات كبيرة الحجم ثقيلة الوزن ، من لابسي الخاكي والزيتوني ، إبتداءا من فراش المؤسسة الى مديرها العام ، وهؤلاء كانوا مستعدين تماما لتملق أي مسؤول في الدولة من أجل إكرامية او ترقية وظيفية .

     (( الزيتوني العظيم )) ، كنت أسميه رالف أمير الذباب ، على إسم رواية البريطاني وليم جيرالد جولدينج التي ألفها سنة 1954 ورفضت نشرها له أكثر من 20 دار نشر، وحين حصل جولدينج على نوبل للأدب عام 1983 ، تمت ترجمة روايته تلك الى العربية ... وقرأناها ، وأطلقنا أسم رالف أمير ذبابها .. بطلها ، على (( الزيتوني العظيم )) بطل الإذاعة والتلفزيون العراقية .

في تلك الأيام الغر الميامين قرر (( الزيتوني العظيم )) أن ( يطشرنا ) نحن مذيعي ومذيعات الإذاعة والتلفزيون على 36 محطة بث بديلة منتشرة في طول العراق وعرضه ، من أجل ، إذا إنقصفت عنده محطة بغداد ، يكون هو جاهز على التو واللحظة ومن 36 محطة بديلة للبث منها براحته ، والى أين ما تصل قدراته البثية .

فعلا كما يغني كاظم من كلمات نزار قباني وألحان فتح الله أحمد (( منين أجيب إحساس للي ما يحس ؟)) .  

      كافور الأخشيدي ، قصدي (( الزيتوني العظيم )) ورغم أني حامل ووضعي الصحي بمنتهى الحرج ، إلا أنه قرر يبعثني الى المحطة البديلة في كركوك ، ولسان حاله يقول : سبع بسامير بتوثيتي والعايف دمه يتقدم .

فعلا كما قال المتنبي :

لا تشتري العبد إلا والعصا معه       إن العبيد لأنجاس مناكيد

      مجموعة من زملائي وزميلاتي المذيعين والمذيعات كانوا معي الى بعثة كركوك ، حملتنا الى هناك سيارة الإذاعة ، وجدنا السيد مدير تلفزيون كركوك قد حجز لنا في أحد الفنادق ، ولم أكن مطالبة بالدوام ، لأن عملي الحقيقي كان سيبدأ عندما تقصف محطة تلفزيون بغداد ، وتقريبا قضيت كل الوقت نائمة في الفندق ، ولا أدري إذا وقعت الحرب .... أي معجزة ستفيقني عندها من نومي المرضي ذاك كي أقوم بعملي الإستثنائي !!!!!؟؟

الوقت القصير الذي كنت أذهب فيه الى تلفزيون كركوك ، لاحظت فيه أن المحطة تبث للكرد ، باللهجتين الكرديتين ، السوراني ، والبهدناني ، مع أفلام كارتون ونشرات أخبار باللغات العربية والتركمانية . 

      سائق الدائرة كان يأتي الى الفندق عند السابعة مساءا ليصطحبني الى التلفزيون ، هناك فتحوا لنا أستوديو طواريء لنستعمله إذا قصفت محطة بغداد ، وكنا نجرب أجهزة الصوت والصورة فيه ، وعند التاسعة مساءا ينتهي عملنا ، فتأخذنا سيارة التلفزيون لتناول العشاء في أحد المطاعم ، ثم العودة للنوم في الفندق حتى اليوم التالي .

      كنت أفكر طيلة هذا الوقت ... هل الأمريكان ( أغبياء ) الى الحد الذي يقصفون لنا محطة بغداد ، ثم يسمحون لنا أن نبث من أي محطة أخرى سواها ؟؟

من هو ( الجاهل ) نحن أم هم ؟؟؟

      لكني كنت أداة مسيرة ،، من قبل قيادة حكومة غبية ،، ومن قبل وصوليين يرتدون الخاكي والزيتوني ، يتزلفون للحكومة الغبية ، يبشرونها بمعجزات ( تشبه المدفع العملاق ) تصل مدياته من بغداد الى جنوب المحيط الهندي ، ويكتبون لها عنا تقارير ( أحد من حد الموس ) تذبح أعتى رقبه بلمح البصر ، ويمسخون لها رأي كل العراقيين ،  نحن الذين تقع علينا مصائب الحروب ،  بكل جورها وهمجيتها وحيوانيتها . وفي هذه المرحلة يجب ان نقرر وبعدالة تقربنا الى الله ، أنه اذا كان كل وصولي صار بعثي ... فليس كل البعثيين وصليون ، بل فيهم ناس محبة العراق والعراقيين لديهم مثل محبة أولادهم وأهلهم .

       من نحن كشعب أو كعراقيين ؟ بنظر الوصوليين ؟؟ أكثر من مجموعة حيوانات ، لا تهش ولا تنش .. ولا..!!؟؟

نحن كنا ، ولم نزل  :  ولا شيء .. بنظر كل وصولي حقير أبا عن جد ..  وأما عن جده ، يبيعنا بكل سهولة .. وتحت أي مسمى ... من أجل أن يصل .

من سوء حظي ، زوجي كان مطلوبا لخدمة الإحتياط مع مواليد 1963 .

      عند نهاية الحرب مع ايران تسرح جنديا من الخدمة العسكرية وحدته في مدينة ( ميمك ) الحدودية مع ايران . كان يتمتع بإجازة لمدة 3 أيام كل 27 يوم .

      وما هي إلا عدة أشهر ليتم إجتياح الكويت ويتم إستدعاء المواليد التي يخدم معها فيستدعى هو أيضا .

ولأنه على مشارف الأربعين ، فقد تقرر لكل من بعمره أن يشغلوا الوحدات الإدارية في المقرات والمعسكرات ، بينما يرسل الشباب الى الوحدات القتالية .

      زوجي كان جندي كاتب قلم في معسكر الرشيد ومع هذا لم يكن يرجع الى البيت إلا في الأجازات الدورية .

      طبعا كان قلقا علي بشدة ، بسبب وضعي الصحي نتيجة الحمل ، ونومي الغير المعقول ، ولم يكن بيده عمل شيء حين قرر الزيتوني العظيم رالف أمير الذباب إرسالي الى كركوك .

      غير أن زوجي كان يكلمني هاتفيا عدة مرات كل يوم ، وبعد أسبوعين من وصولي الى كركوك ، كلمني موظف إستعلامات التلفزيون قائلا إن ضيوفا حضروا لتحيتي ، حين خرجت الى الإستعلامات ، وجدت زوجي أمامي بملابس الجندية ، قال إنه أخذ إجازة أسبوع من وحدته وسيقضيها معي في كركوك .

      كان ذلك الأسبوع أياما طيبة قضيتها في تلك المحافظة ، زرنا قلعة كركوك مشيا على الأقدام شارعا بعد شارع ، ذهبنا الى السينما ، عدة مرات إستأجرنا سيارة تاكسي لتدور بنا في أنحاء كركوك كي نراها كلها ،  أخذني زوجي عدة مرات الى أسواق كركوك وإشترى لي العديد من الثياب والعطور وهدايا الذهب والفضة ، كما إشترينا مصنوعات محلية عديدة لبيتنا في بغداد ، وفي قلعة كركوك .. وجدنا بسطة لبيع الكتب المستعملة ، عثرت فيها على كنز هو : ديوان أبو العتاهية ، وديوان النابغة الذبياني ، وديوان أبو فراس الحمداني ... إشتريتها كلها دون تفكير ، وربما دفعنا فيها أكثر من السعر المطلوب لذلك قرر البائع إعطائي هدية مما سأختاره من على بسطته ، فإخترت كتاب كلمات متقاطعة باللغة العربية مربعه 40 × 40 حرف ، ضحك زوجي وقال : لن تنتهي منه حتى تعودين الى بغداد .

بعد يومين أو ثلاثة أيام من وصول زوجي كركوك .. أذاعت الإذاعة العراقية والتلفزيون العراقي والصحف العراقية ، أن ايران وكبادرة حسن جوار، وبسبب أوضاع العراق الحالية .. قررت إعادة أسرى العراق لدى ايران ، قامت الدنيا ولم تقعد ، كل من لديه أسير أو مفقود في الحرب مع ايران بدأ البحث عن عزيزه الغائب .

     إذاعة كركوك المحلية أذاعت أن وصول دفعات أسرى كركوك سيكون عند مبنى الإدارة المحلية للمحافظة وهناك سيتم لقاء الأسرى بذويهم .

أخذتنا سيارة كوستر من محطة التلفزيون ،، الى مبنى الإدارة المحلية لمحافظة كركوك ، لم أنزل من السيارة ، لكني بكيت فيها بكاءا مرا ما لا يقل عن 3 ساعات .

أسرى عائدون لم يتعرف عليهم أهاليهم.

وأسرى عائدون لم يتعرفوا على أهاليهم .

أسرى تنزل من السيارة تقبل الأرض وتنثر ترابها على الرأس والوجه .

عائلات جلبت فرقا موسيقية ، بدأت تقرع أبواقها وطبولها وصنوجها ، عند مشاهدة الأولاد العائدين .

عشرات القصابين إنتشروا في المكان ، وكل معه سكينه وضحيته ، مؤجر لملاقاة الحبيب العائد .

أصوات ضحك وبكاء تشبه صهيل الخيول ، تؤججها الفرحة ، ويؤججها الألم .

     هل هذا هو قدرنا معك يا عراق ؟؟ أن لا تمنحنا لحظة الفرحة إلا بعد ان تغمسها بسنوات من الألم ؟

ربي تعاليت في عليائك ... لا ترني في نفسي وأحبتي يوما كهذا ، وإمنحني سعادة إختيار الموت قبل أن أراه .

في اليوم التالي ... عند العاشرة صباحا ، نزلنا أنا وزوجي لتناول الإفطار في مطعم الفندق ،،، رأيت ما ألجمني ووجمني وقلبني رأسا على عقب .

ثلاثة أسرى عائدين ... من قبل أن يذهبوا للقتال ، كانوا أيتاما ، أهلهم ماتوا في قضايا مختلفة ،  فعاشوا هم كيفما اتفق ،، ساقتهم الجندية مسيرين غير مخيرين الى الخدمة الإلزامية ، وهناك قاتلوا وتأسروا ، وحين عادوا _  أكفر بكل القيم والمعاني _  لم يجدوا أحدا يستقبلهم أو يشعرهم أنه فرحان لعودتهم ، ربما تلقوا تهنئة من هنا او هناك ... لكنهم لم يستشعروا  ذلك اللقاء الحميم بين إنسان .. وعزيزه الإنسان .

الإدارة المحلية لمحافظة كركوك حجزت لهم معنا في نفس الفندق لحين يتدبرون كيف سيعودون الى حياتهم .

لم يكن هناك داع للكلام ... مجرد النظر في وجوههم ، يبلغك بما لا تستطبع أن تقوله أبلغ الكلمات .

     وقبل أن يوضع الشاي على مائدتنا ، ركضت الى الحمام للتقيؤ ، كانت حجتي هي الحمل ، غير أني في الحقيقة تقيأت من الحياة .. وعليها . ظل زوجي ساكتا .. لم يعلق بكلمة .. لكنه بعد يومين وهو مضطر للعودة  الى وحدته العسكرية في معسكر الرشيد في بغداد قال لي : ميسون .. إنتبهي لنفسك .. ستموتين سريعا إذا كنت تتفاعلين مع الأمور بهذا الشكل المر ، ولا تنسي أنك مسؤولة عن حياة طفلنا الذي هو أمانة عندك الآن .

أكملت شهرا في كركوك .. كنت أكلم مكتب المدير العام في بغداد كل يوم طالبة العودة .. ولا من مستجيب .

أبو فراس الحمداني يصرخ : إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر

يجاوبه أبو العتاهية : ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب

 فيردهما على أعقابهما النابغة الذبياني وهو يقول :

أمن آل مية رائح أو مغتد    عجلان ذا زاد وغير مزود

وأنا بين كل هؤلاء ... أحب العراق .. وأفك رموز كلمات متقاطعة .. ولا أدري ما الذي سيقع بعد لحظة . 

      كنت في كركوك حين فرضت علينا قرارات الأمم المتحدة عقوبة الحصار ، فجاءنا أمر من بغداد بتسجيل لقاءات مع الناس في كركوك وإرسالها الى بغداد ليتم عرضها بين مواد البث ، قمت بتسجيل العديد من تلك اللقاءات ، غير أنني وكل الناس مثلي كنا نظن أن ( الموت نعاس ) لأننا لم نكن نعرف بشكل حقيقي ما هو الجوع ، أو الحاجة الى الأشياء أو معنى إنهيار قيمة العملة بمضاعفات فلكية ، بعد أقل من عامين صار سعر الدولار الأمريكي 2500 دينار عراقي ، بعد أن كان الدينار العراقي الواحد يساوي 3 دولارات أمريكية وهذا معناه أن قيمة كل شيء في حياتنا تصاعدت 7500 مرة . 

      حين تحدد يوم عودتي الى بغداد قرر السيد مدير تلفزيون كركوك دعوتنا كفريق عمل جميعا الى العشاء ، وقد إختار لنا مكانا رائعا هو نادي شركة نفط الشمال في كركوك ، أخذتنا سيارة الإذاعة منذ وقت مبكر عصرا لمشاهدة النار الأزلية وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي شاهدت فيها تلك النار العراقية الخالدة ، ثم زرنا المجمع السكني لعمال وموظفي شركة نفط الشمال ، وهو من أجمل مناطق العراق في نظري ، بيوته مبنية بنفس طراز بيوت منطقة تل محمد في بغداد ، ولكن لأن البيوت مملوكة لشركة النفط ، لهذا تم الحفاظ على طراز تلك البيوت ولم يسمح بتخريب جماليتها  بإضافات البناء أو تغيير الألوان ، ولهذا فحين تدخل الى تلك المنطقة ينتابك إحساس أنك تعود الى الخمسينات من القرن الماضي وقت بنت الحكومة الملكية في العراق تلك المجمعات ووزعتها على العراقيين .

      ذهبنا بعد ذلك الى النادي الذي كان عمرانه يشبه قاعة الشعب في باب المعظم ، وكان لم يزل يتبع نفس الأسلوب البريطاني القديم في تقديم خدماته وتعامله مع الضيوف ، وحسب الحجز المسبق تمت تهيأة مائدتنا في الحديقة قرب المسبح ، ووضعت كروت صغيره عليها أسماؤنا في الأماكن التي خصصت لجلوس كل واحد منا .

      كان الجو شديد الحرارة فطلبت ماءا للشرب ، جاء النادل وصب لي شيئا في كأس ، حين ذقته ، إلتفت إليه وقلت : عفوا طلبت ماء وليس عصير .

فقال : هذا ماء وليس عصير

قلت : لكنه حلو

      عندها شرح لي السيد مدير التلفزيون أن هذا المجمع السكني بأكمله والنادي بضمنه يأخذون ماءهم من مصافي ماء شركة نفط الشمال التي تصفي الماء من الأملاح تماما إستعدادا لحقنه في آبار النفط بدل النفط المسحوب ، ولهذا فالماء هنا بهذه الحلاوة ، شعرت بالعجب لماذا لا تشمل هذه الخدمة كل مناطق كركوك ؟ فالماء الذي كنت أشربه في الفندق كان ماءا عاديا جدا !؟

 ولكن هذا هو حال الدنيا في التخصيص والتعميم والتبعيض .

       صباح اليوم التالي ذهبت الى التلفزيون لتوديع العاملين وإبراء ذمتي وتوقيع بعض الأوراق ،، فوقعوني على ورقة ، وسلموني 25 دينار . سألت عنها فقيل إنها أجرة التاكسي الذي سيأخذني الى بغداد ، لا توجد سيارة حكومية تعيدني الى بغداد .

تعجبت بشدة من هذا الإجراء .... إذا كنا في حالة حرب !! أي حرب هذه التي تذهب إليها أو تعود منها بسيارة تاكسي ؟

قيادة العراق الحكيمة والملهمة والشجاعة والذكية ، وحدها هي التي تملك الجواب .

       في تلفزيون بغداد كان الوضع خانقا . يوميا التلفزيون مفتوح منذ الصباح وحتى المساء ، يغطي البث مذيعان ومذيعتان ، لذلك كان علينا أن نداوم يوميا مالا يقل عن 12 ساعة . أين نحن الآن من أيام زمان عندما كان عددنا كاملا في المحطة وكنا نتعارك على الدوام والظهور ، فلا يقع على الواحد أو الواحدة منا غير 3 أو 4 ساعات  كل أسبوع ؟ 

       عدنا الآن وبسبب التهديد بقصف العراق الى التوقيع في سجل الخسائر عند الدخول أو الخروج من الدائرة مثلما كنا نفعل أيام الحرب مع ايران ، وكان هذا الإجراء يصيبني بالغثيان ، بما يعنيه ، أنك ربما تموت ولن يعثر حتى على أشلائك .

       الملوك والرؤساء والوفود العرب والأجانب الذين كانوا يقدمون الى الوساطة مع العراق كانوا يسببون لنا إرباكا إضافيا بتغطية مراسيم إستقبالهم وتوديعهم تلفزيونيا ، أما وأنهم يغادرون زعلانين لعدم قبول صدام جهود الوساطة وإرتفاع نبرة التهديدات ، فأقسم معها بالله العظيم أننا كنا ندخل الدائرة في بعض الأيام وليس لنا أمل مغادرتها أحياءا على الإطلاق .

طبعا هذا لم يكن حالي وحدي ... أحترم بشدة خصوصية أخوتي وأخواتي المذيعين والمذيعات ، فلم أذكر أسماءهم ولم أتحدث عما جرى لهم ، وأتحدث عن نفسي فقط ، كل واحد أو واحدة منهم لديه القابلية لو أراد أن يقول كلمته وزيادة ... أيامنا تلك كانت مرة مرارة غير عادية ،،، كلنا شملتنا الإقامة في المحطات البديلة بعيدا عن بيوتنا وأطفالنا ومسؤولياتنا ،، بعضهن أمهات لعدة أطفال ، ومن تغيب عن بيتها شهرا يتعرض أطفالها الى البهدلة ، وحتى إن تواجدت في محطة بغداد فهي مطالبة بالدوام مالا يقل عن 12 ساعة يوميا ، وهذا أمر مدمر بسبب شدة وحدة وحساسية العمل التلفزيوني .

      المذيعون الرجال كانوا يتركون بيوتهم وعوائلهم ليغيبوا شهرا ، وحين يعودون الى بغداد كانت البيانات الرنانة بإنتظارهم والتي لا يقل طول الواحد منها عن عدة صفحات ، وهناك من يحاسبهم حسابا عسيرا على الغلطة والتلكؤ والخطأ النحوي في قراءة البيان ، لذلك كانت أوضاعهم مدمرة هم أيضا .

      نتيجة لكل ذلك وبعد أقل من شهر على إجتياح الكويت بدأت الإجازات المرضية تقدم الى الإدارة منا جميعا ( بالجملة ) ، عندها قام ( أمير الذباب ) الزيتوني العظيم بإصدار ( فتوى ) تقول : الموت وحده سيكون العذر المانع من تنفيذ الأمر ، وأي تقرير طبي أو غير طبي مرفوض ، وعصيان الأمر من كلا الجنسين معناه التوقيف في مركز شرطة الصالحية في لحظتها ، ثم إحالة الموضوع للأمن العامة لتتولى النظر فيه بحريتها .

بعد أسبوعين من عودتي من كركوك .. كنت في استوديو البث أغطي فترة ختام التلفزيون ، جاء الساعي وسلمني أمرا بالسفر صباح اليوم التالي الى تلفزيون البصرة للبقاء في محطته شهرا .

      صباح اليوم التالي كتبت رسالة الى زوجي وتركتها فوق التلفزيون في الصالة وغادرت البيت ، ركبت سيارة تاكسي ، وحسب التعليمات ذهبت الى مكتب الخطوط الجوية العراقية في المنصور ، تسلمت منهم تذكرة الطائرة المغادرة بعد ساعة الى البصرة ، ونفس التاكسي أخذني الى مطار بغداد .

      عند العاشرة والنصف صباحا نزلت الطائرة في مطار البصرة ، ثم تحركت ببطء لتقف بجانب قمع الدخول ، فتحت باب الطائرة وبعد عدة خطوات وجدت نفسي في صالة المطار ، تلفتت يمنة ويسرة فلم أجد أحدا بإستقبالي ، طلبت من الإستعلامات مناداة فريق التلفزيون عبر المايكرفون       وانتظرت ربع ساعة فلم يأت أحد ، عندها عرفت أن علي أن أتدبر أمري .

طلبت تاكسي من المطار فقيل لي أجرته 5 دنانير الى سنتر البصرة فوافقت . ركبت التاكسي وغادرنا المطار وكانت تلك زيارتي الأولى للبصرة ، بمجرد مغادرة المطار صدمني خراب المدينة وجوها المترب ، عدلت النظارة الشمسية التي تغطي ثلاثة أرباع وجهي والتي لا أستطيع مغادرة البيت دونها لتحاشي الناس ونظرت الى الطريق ، فسمعت السائق يقول : خاتون الأجرة 25 دينار وليس 5 مثلما خبروك في المطار واذا ما يعجبك ممكن تنزلين .

قلت له : لماذا لم تخبرني منذ كنا في المطار ؟ ولماذا ضربت الرقم × 5 ؟

قال : خاتون الله وكيلك البصرة مابيها ولا دينار واحد

قلت : أين راحت فلوسها ؟

قال : فلوس البصرة كلها في الكويت .. وأغراض الكويت كلها في البصرة ، لذلك الدرهم عزيز جدا الآن ، الناس بيوتها مليانة بضاعة ولكنها ميتة جوع وما عدها درهم تشتري به خبز .

       لم أجادل .. المسافة طويلة بين المطار والمدينة والجو حار إضافة الى أنني لا أعرف الطريق لذلك علي أن أقبل الإبتزاز . هذا السائق المراهق بادرني بعد 5 دقائق قائلا : خاتون انت ممثلة لو مطربة ؟ صحيح أنا ما تعرفت على شكلك من وراء النظارة ، بس صوتك جدا مألوف عندي وأحس أنا كنت أسمعه يومية .

قلت بتبرم : لا ممثلة ولا مطربة .. شوف دربك أخي أريد الوصول بدون تأخير .

قال : طيب الى أي مكان بشارع الجمهورية ؟

قلت : الى بناية المحافظة .

     بعد قليل وصلنا الى بناية المحافظة .. وضعت بيده 25 دينار وأنا أهم بمغادرة السيارة فسمعته يصرخ : بشرفي انت ميسون البياتي .. ست أنا آسف، خذي هذه 20 ، أنا يوميه أشوفك بالتلفزيون وما يصير أتصرف معاك بهذا الشكل .

قلت له : طيب ما دام عرفتني .. وصلني للتلفزيون وخذ المبلغ كله .

وضع المبلغ في جيبه ،، وسارت السيارة 20 مترا ثم توقفت ، ألتفت إلي وأشار بيده قائلا : هذه بناية التلفزيون

قلت : شكرا ومع السلامة

     سحبت حقيبتي من على الرصيف ودخلت التلفزيون ، إستقبلني موظف الإستعلامات بحفاوة ، ثم جاء مديرالتلفزيون ، واستقبلني بوجه متهلل . مدير تلفزيون البصرة عراقي مسيحي له أخلاق من عسل تجبرك بعد لحظات من التعرف عليه على الإرتياح له والثقة به .

قدم لي القهوة وماءا مثلجا وقال : اليوم تروحين للفندق وترتاحين ومن بكرة نبدأ الشغل . ثم طلب لي أحد سواق الدائرة لتوصيلي الى الفندق ، في الطريق ومن شدة إحساسي بالتعب وخنقة الجو والحر ، رأيت معرضا يبيع ملابس للحوامل ، فطلبت من السائق التوقف ، إشتريت ثوبي حمل قررت البدء بإرتدائهما منذ ذلك اليوم ، لعلي أشعر بشيء من الراحة مع حملي الذي دخل الآن في شهره الرابع .

دخلنا شارع الشهداء ومررنا من أمام الشيراتون لكننا إنعطفنا الى شارع فرعي وتوقفت السيارة . حمل السائق حقيبتي وأدخلها الى فندق المضايف الذي يقع في الشارع الخلفي لشيراتون البصرة ، وقال : ستنزلين هنا .

     فندق المضايف فندق جيد لكنه ليس 5 نجوم ، أكملت تسجيل دخولي وصعدت الى غرفتي ، مباشرة كنت بحاجة الى حمام بعد كل ذلك التراب والعرق ، وقفت تحت الدوش وبمجرد إستعمال الشامبو تكونت على جلدي طبقة لزجة من شيء لا أعرف ما هو ، غسلت جسمي بكثير من الماء لكنها ظلت باقية ، وضعت معجون أسنان على الفرشاة ودعكت أسناني وحين وضعت الماء في فمي تعجبت من مرارته ومجاجته .

أنهيت حمامي سريعا ، وذهبت الى النوم ، حين صحوت وجدت خرائط من الملح مرسومة على وجهي وجسمي وشيء يشبه الطحين منثور على شعري .

     منذ الإفطار الذي أكلته في الطائرة لم آكل شيئا . نزلت الى مطعم الفندق ، وكانوا يقدمون كل شيء ، عرض علي النادل أن يحضر لي سمك زبيدي مقلي بالزبدة مع أصابع بطاطس أو زر ، لكني فضلت أن آخذ بيضة مسلوقة وكوب لبن .

في اليوم التالي ذهبت صباحا الى التلفزيون ، كلمت المدير عن ملح البارحة ، فقال : هذا حال ماء كل البصرة ومنذ سنوات نحن نعيش على هذا الماء .

     لست أدري سعر معمل تحلية ماء للملايين من سكان هذه المدينة الصابرة سيساوي سعر كم دبابة أو طائرة مقاتلة !!؟ إيـــــــه يا عراق الصبر . تجاوزت فكرتي هذه وقلت له : أستاذ لماذا لا تحجز لنا في الشيراتون ؟

قال : ممنوع ،، الشيراتون الآن مخصص لكبار ضباط الجيش للسكن والإجتماعات ولا يستعمل لأغراض مدنية إطلاقا .

قلت له بجدية : أستاذ .. صحيح يطلق على الإعلاميين إسم الفيلق الثامن ؟؟      

قال : نعم

قلت : أقترح تبديل التسمية الى فيلق شلهودة

قال : ما معنى شلهودة ؟

قلت ضاحكة : أي بصراوي أنت ولا تعرف من هي شلهودة ؟ شلهودة هذه يا سيدي إمرأة عراقية ، عندما تذهب الى مجلس عزاء ، تلطم مع الكبار، وتأكل مع الصغار . وهذا هو حالنا الان .

ضحك المدير الى أن دمعت عيناه ثم بادرني بتفصيلات لهذه التسمية من نوع : شلهود مطوع ، شلهود إحتياط ، شلهود ركن ، ثم سألني : لماذا تريدين السكن في الشيراتون ؟

قلت : والله من أجل التخلص من هذا الماء المج .

نظر في وجهي نظرة ذات معنى وقال : وهل تعتقدين فندق الشيراتون فيه مصفى ماء خاص به ؟

     عندها أدركت أن حال البصرة عسير للغاية ، وكان الله في عون مدينة تقع خطا خلفيا لحرب طاحنة ، تعقبها بعد عام واحد ، حرب ثانية ضروس .

     إستفهمت عن جدول عملي ، ثم ذهبت الى مكتبة التلفزيون ، إستعرت رواية ستاندال ( الأحمر والأسود ) ، وفي طريق العودة الى الفندق طلبت من السائق أخذي الى السوق ، إشتريت فاكهة ملأت بها ثلاجة غرفتي ، وصندوق كبير من قناني الماء المحلى أستعملها للشرب والإستحمام ، وكتاب كبير للكلمات المتقاطعة .

     كنت أقرأ كثيرا ، وصارت عندي خبرة لا تضاهى في حل الكلمات المتقاطعة ، وطول النهار آكل الكثير من الفاكهة وأشرب الحليب والماء ، عند الخامسة عصرا يأتي السائق لإصطحابي الى التلفزيون ، وينتهي عمل كل الفريق القادم من بغداد عند الثامنة مساءا .. مع تعليمات بالتواجد في الفندق منذ العاشرة مساءا وعدم مغادرته لأي سبب كان ، كنا نتوقع القصف كل ليلة ، لذلك كان مؤكدا علينا إنه اذا حصل شيء فخلال عشر دقائق سيتم إحضارنا الى التلفزيون .

     ما بين الثامنة والعاشرة كنا نتجول في البصرة بالسيارة ، أحيانا نشتري عشاءا من أحد المطاعم ، لكني كنت أفضل البيض المسلوق على أي شيء سواه ضمانا للنظافة ، وضمانا لعدم دسامة الأكل ، فقد لاحظت أن مطاعم البصرة كانت تطبخ الأكل بدسامة عالية لا أحبها . زملائي يتمازحون معي دائما ويقولون : أكيد فتحت في معدتك مفقس دجاج .

      خلال هذه الجولات بالسيارة لاحظت أن النساء في البصرة لا يستطعن السير في الشوارع بمفردهن ، السيدة التي تمشي تلاحقها عدة سيارات أمامها وخلفها ، وحقيقة كنت أستحي من هذه المناظر خصوصا وأنا بين عدد كبير من زملائي في سيارة واحدة ونرى جميعا نفس الحادثة .

ذات مرة تجرأت وسألت على إستحياء : ما هذا ؟ هل البصرة وأهلها ينظرون للنساء بهذه الطريقة الدونية ؟

فقال واحد من زملائي : هذه بركات حي الطرب

سألت : حي الطرب ؟ ما معنى حي الطرب ؟

إلتفت إلي وسألني : هل صحيح لم تسمعي به ؟

قلت : والله لم أسمع

      عندها تطوع الجميع لإثراء معلوماتي ، عن حي الدعارة الحكومي الكبير الذي إفتتحته الدولة في الخطوط الخلفية للقتال من أجل راحة الجيش وإستقدمت له نساءا من جميع أنحاء العالم ، وبسببه صار منظر أي سيدة تسير وحدها شبهة بالإنتماء الى ذلك المكان .

فيما تلا ذلك من سنوات ، وحين صار صدام قائدا للحملة الإيمانية الكبرى ، كنت أتذكر المشاهد المهينة لملاحقة نساء البصرة ، وما سمعته من زملائي من حكايات عن حي الطرب ، فأضرب كفا بكف ، وأقول : سبحان مغير الأحوال .. من حال الى حال .

بعد أسبوعين من وصولي الى البصرة ، ورغم وضعي الصحي الحرج وخطورة كل ما أقوم به من تحرك غير عادي على صحتي وحملي وطفلي ، إلا أنني كنت أطاول في صبري مطاولة المغلوب على أمره ، وأدفعها بالتي هي أحسن ، ولكن تأتيك المشاكل أحيانا بسبب غيرك وليس من عمل يدك .

      زملائي وزميلاتي الموفدين من بغداد الى البصرة نفذ صبرهم ، وبعضهم في البصرة منذ أكثر من شهر ، فبدأوا يلحون على بغداد طالبين العودة ، كلمة من هنا وكلمة من هناك وتصاعد الموقف وصارت مشكلة كبيرة تقرر بموجبها فرض عقوبة علينا جميعا  .

 محطة تلفزيون البصرة ، كانت مسؤولة أسبوعيا عن مبادلة البرامج مع تلفزيون الكويت الذي صار في فترة الإجتياح يبث مواد عراقية حاله حال أي محطة عراقية ثانية .

     ذلك الأسبوع تم تكليف كل الوفد القادم من بغداد الى البصرة بالذهاب الى تلفزيون الكويت لتسليم أشرطة الأسبوع المقبل وإرجاع أشرطة الأسبوع الماضي .

قلت لمدير تلفزيون البصرة : أستاذ الله يخليك ، الفرع لن يرجع الى الأصل إلا  إذا قتلتوني ؟ أنا حامل في الشهر الخامس تقريبا ، هل تقبلونها على زوجاتكم حتى تقبلونها علي ؟

كان المدير متأسفا بشدة ، قال : هذه ليست أوامري ، هذه أوامر بغداد ، وهذا الزيتوني العظيم يهددكم بالأمن العامة ، وفوق ذلك جميعكم ستوقعون عندي مستندات الإستلام ،، وتوقعون في تلفزيون الكويت مستندات التسليم ، وجميع هذه المستندات مني ومن الكويت سترسل الى بغداد وأكيد ستدقق هناك ما دامت هناك مشكلة .

قلت له : أدخل مستشفى هنا في البصرة ؟

قال : أنت تعرفين الإجازات المرضية ممنوعة ، عدا عن أنك اذا دخلت مستشفى فيجب أن أبلغ بغداد على الفور ، وبعد أن كانت المشكلة مع زملائك ، تصيرين أنت في وجه المدفع ، وهذه حرب وليست لعب .

قلت له : ماذا أفعل ؟

قال : ليس عندي سيارة لنقلكم مع كل هذه المواد ، لذلك طلبنا سيارة كبيرة وجيدة من الجيش ، سأختار لك بنفسي أأمن مكان فيها ، تمارضي حتى أمام الزملاء ولا تغادري السيارة لأي سبب مهما كان ، ستذهبون صباحا وعند الظهر ستكونون في البصرة ، الكويت أقرب لنا من العمارة والناصرية .

     تلك الليلة بكيت في الفندق ... كنت أشعر بنفسي مثل قطة صغيرة أو عصفور صغير وقع بيد أطفال قساة جاهلين يضربون بالحجارة حد الموت .

     صباح اليوم التالي جاءت سيارة كوستر عسكرية حملتنا مع أشرطتنا وإنطلقت بنا الى الكويت . وكنت خائفة لأني لم أكن أدري ما سيواجهنا في الطريق .

     حين وصلنا الى نقطة صفوان الحدودية العراقية مع الكويت ، وجدناها بناية مهجورة مررنا بها دون أي توقف ... سارت بنا السيارة حوالي 20 دقيقة ، فبدأنا نلمح عدة دشات كبيرة جدا جدا منصوبة في عرض الصحراء ، قيل لنا أن هذه دشات محطة تقوية المطلاع التي كانت الكويت تستعملها لتقوية إستلام القنوات الفضائية من مختلف دول العالم .

استمر الطريق مستقيما لكنه بدأ يرتفع الى تل ، حين صرنا في أعلاه كنا بجانب بناية النقطة الحدودية الكويتية السابقة ( المطلاع ) وأنت تنظر من أعلى التل الى الوادي ترى دبابتين عراقيتين محروقتين ، قيل أن طيارا عراقيا في أول تقدم الجيش العراقي الى الكويت هاجمهما ، ثم فر الى المملكة العربية السعودية ، كانت النقطة الحدودية مهجورة أيضا ، لكن عدة سيارات عسكرية عراقية كانت تقف لتنظيم سير الداخلين والخارجين من والى المحافظة 19 .

      أول لافتة قرأتها على الطريق كانت : أهلا بكم في مدينة الجهرة ،، وبعد دقيقتين بدأت أرى سيارات من أحدث طراز منزوعة التايرات والراديو والمسجل ومتروكة على الطريق .

الجندي الذي يقود سيارتنا يعرف الطريق جيدا لذلك وجدنا أنفسنا بعد وقت قصير عند بناية تلفزيون الكويت ، جاء العمال الهنود وبدأوا بتنزيل أشرطة من سيارتنا ثم تحميلها بأشرطة غيرها ، وبعد حوالي ساعة ونصف أتموا عملهم .

 رفضت النزول من السيارة بحجة أن الطبيب منع عني الحركة خوفا على الجنين ، لذلك جلب لي أحد الزملاء سجلا كتبت إسمي ووقعت فيه ، وحين رأيت زملائي يعودون الى السيارة لننطلق ، شعرت وكأني أولد من جديد .

السائق قال : يا جماعة سنكون في البصرة تقريبا عند الخامسة مساءا ، لذلك يجب أن نتغدى ، أعرف مطعم في منطقة النقرة يبيع أكل شامي ، سوري ولبناني وفلسطيني ، نشتري منه سندويجات ونغادر .

في الطريق الى ذلك المطعم ، لاحظت الكويت ورغم الحرب ، إلا أنها مدينة مرفهة وشتان ما بينها وبين البصرة ، مع أنهما تتقاسمان نفس الأرض، وتسحبان من نفس خزين البترول تحت الأرض .

     لكني حزنت على مواطنيها أنهم تعرضوا مثلنا الى إذلال الحرب ، صحيح أن بعضهم يستحق ذلك الإذلال مثلما يستحقه بعض العراقيين ... لكن عامة الناس في كل زمان وعلى كل أرض ، ناس طيبة وتستحق الحياة بكرامة .

فجأة شعرت برغبة أكثر من ملحة لإستعمال التواليت الذي لم أدخله منذ الصباح ، لذلك كان أول شيء قمت به حين وصلنا الى الدكان الصغير في النقرة الذي يبيع السندويجات هو الدخول الى الحمام ، ثم غسلت وجهي وفرشت أسناني ومشطت شعري ، هل تعرفون ماذا يشبه طعم ماء الكويت ؟؟ إنه بالضبط نفس طعم ماء شركة نفط الشمال في كركوك ، ومع أن البصرة تشرب من دجلة أو من شط العرب إلا أن ماءها مج ومر ، بينما الكويت التي تشرب من البحر ماءها عذب وحلو كالسكر .

     لو يدرك الضمير الميت للحرب ما يفعله بأبسط مقدرات البشر ، ماء شربهم مثلا فربما عاجلته حالة من الصحيان ، ولكن من أين لميت أن يصحو ؟

     إشتريت بيضة مسلوقة ورغيف خبز وقنينة ماء محلى وضعهم البائع في كيس ، أخذته وعدت الى السيارة .

دارت بنا السيارة لتأخذ طريق المطلاع ، قبل حوالي 4 كيلو متر من بناية نقطة  حدود المطلاع ، وجدنا الطريق مسدودا وآلاف السيارات متوقفة عليه ولم نعرف السبب . سيارتنا العسكرية صعدت حافة الطريق الترابيه وبقينا نسير الى ما قبل بناية نقطة المطلاع الحدودية بحوالي 200 متر ، عندها أوقفتنا سيطرة عسكرية وقالوا : ممنوع المرور

     قال لهم سائقنا : هؤلاء إعلاميون يجب أن يكونوا في البصرة قبل السادسة مساءا . فقيل له : الطريق بين المطلاع وصفوان مغلق لمدة ست ساعات ، خلالها سيتم لغم وتفجير بنايتي حدود صفوان والمطلاع كآخر علامتين من علامات فصل الكويت عن العراق .

عندها التفت السائق إلينا وقال : ربما تتأخرون ساعتين أو ثلاثة لكنها أفضل من الإنتظار 6 ساعات ... سآخذكم الى البصرة على الطريق القديم الذي إسمه طريق الأثل . ودار بنا وإنطلق .

     ( طريق الأثل _  مغلق عسكريا ) هو الطريق القديم الذي كان يربط البصرة بالكويت قبل إفتتاح طريق ( صفوان _ مطلاع )  ، تبليطه قديم جدا ، وأرصفته متآكلة من ملح الصحراء المدمر وعلى جانبيه ،  مزروعة المئات من شجرات الأثل وهي شجرات شوكية كبيرة فائدتها صد الرمال وهي لا تحتاج لتنمو إلا الى القليل جدا من الماء . الأرض صحراوية ومنبسطة تماما ولكن على مد البصر تلاحظ مرتفعا كبيرا جدا يشبه التل ، سألت ما هذا ؟ فقيل لي : هذا جبل سلام  ... هل تذكرين منطقة الحياد التي كانت ترسم في الخرائط بين الكويت والسعودية والعراق ، نحن الآن فيها ، من هنا اللحيس ، ومن هناك الرميلة ، هذا إتجاه السعودية ، ومن هنا البصرة ، والكويت صارت وراءنا .  

الوقت كان عصرا ، حدة الشمس قلت ، لذلك صارت الرؤية أفضل ، لاحظت في هذه المنطقة مئات الآلاف من الخنادق التي حفرها الجنود لأنفسهم وتمترسوا فيها ، سيارتنا تسير وأنا لاأرى غير الخوذ تتحرك في الخنادق بمستوى سطح الأرض .

      ترى ………. حين ستقع المجزرة ! أي دم سيراق هنا ؟ وهل هؤلاء الجنود حفروا قبورهم بأيديهم منذ الآن ؟؟

وإذا كانت الأرض موحشة بهذا الشكل في عصر يوم ما زال مسالما … كيف ستكون في تلك الليالي عندما ستقع الحرب ؟

قد يتصور البعض أن كلمة ( وطن ) تعني فقط الأرض والإنسان وهذا خطأ ، الوطن هو : أرضنا ، نحن ، زرعنا ، طيرنا وبقية حيواناتنا . في منطقة الأثل شاهدت آلاف النوق والجمال تسرح في المنطقة بين الجيش ، حمراء وصفراء وبيضاء وسوداء ، صغيرة الحجم وكبيرة ومتوسطة ، تنود في مشيتها ، تنظر إلينا بحذر ، ثم تركض هاربة حين تقترب منها سيارتنا .

    ساحة نموذجية للقتال ، سيموت فيها الإنسان والحيوان والنبات ، فإذا وضعنا البصرة صورة خلفية لهذه اللوحة ، بمائها المر ، وحي الطرب فيها ، نتمكن من تكوين لوحة خرافية المعنى عن الإنهيار الإنساني ، كل تكعيبيات بيكاسو لن تتمكن من رسم خط واحد أو لون واحد من خطوطها وألوانها ، وهي بمأساويتها تفوق ( الجورنيكا ) مرات ومرات ، ولن يتمكن كل الشعر الدادائي الذي كتبه تريستان تزارا في ( الرجل التقريبي ) من إعطاء صورة تقريبية بالكلمات لما كانت عليه الصورة الحقيقية على الأرض ، ثم وأنت تمزج صورتنا نحن الإعلاميين الذين ساقتنا أوامر الزيتوني العظيم لنوضع في هذا المشهد ، يتكون عندك إنطباع سوريالي حاد حتى أوسكار وايلد ، الذي كتب رواية ( صورة دوريان غراي ) العجيبة ، سيتعجب منه .

     بعد ثلاث ساعات كنا في فندق المضايف .. أخذت حماما ونمت ، وعزمت على أن لا ادع أحدا يتلاعب بي بعد ذلك .

صباح اليوم التالي ذهبت الى طبيبة أمراض نسائية كتبت لي تقريرا أنني بسبب الإجهاد الذي أتعرض له فإني أعاني من آلام في الظهر وبعض النزف الذي قد يؤدي الى إجهاضي . وصدقت التقرير من مستشفى البصرة الجمهوري ، ولم أعد أذهب الى التلفزيون ، بقيت في الفندق .

مرت الأيام بطيئة طويلة فإنتهى شهر إيفادي الى البصرة ، حاولت العودة بالطائرة فأعطوني حجزا بعد أربعة أيام ، ولأني كنت أريد المغادرة بأسرع ما أتمكن ، فقد وافقت على العودة بسيارة تلفزيون البصرة التي كانت ذاهبة في مهمة الى بغداد . ودعني مدير التلفزيون وهو يقول : بعد شتردين ؟ راح ترجعين بسيارة حكومية ، حتى لا تحكين عن شلهودة بعد .

     أول شيء قمت به في بغداد هو زيارة طبيبتي النسائية الأستاذة الدكتورة عفاف صائب شوكت الجبوري ، سلمتها نسخة من التقارير الطبية التي جلبتها من البصرة وطلبت منها ان تبني على هذه التقارير وضعا صحيا يمكنني من الحصول على إجازات طويلة ومتكررة ، وفعلا تم ذلك .

في الأيام القليلة ما بين إجازاتي التي داومتها في تلفزيون بغداد ، كانت هناك تغيرات جوهرية قد وقعت في التلفزون . تغير المدير العام ، صار الشاعر الأستاذ سامي مهدي هو المدير العام . مدير التلفزيون لا أدري أين ذهب لأن مساعده هو الذي   تولى إدارة التلفزيون بدلا عنه . الزيتوني العظيم لا أدري أين ولى به الدهر ، فتنفس المذيعون والمذيعات الصعداء بعد أن تخلصوا من جهامة وجهه الكريه .

      وزارة الإعلام أدركت لا جدوى هذه الحركة المكوكية على المحطات ، وإكتفت بتنظيم تواجد في محطات الموصل والبصرة إضافة الى بغداد ، أما بقية المحطات البديلة فقد تم إغلاقها حتى إشعار آخر .

     وفود تأتي من كل العالم تطالب صدام بالإنسحاب من الكويت وترد خائبة ، كما أغلق صدام الحدود على الأجانب ومنعهم من المغادرة بحجة انهم ضيوف العراق ، فثارت دوليا قضية إستعمالهم كدروع بشرية . وصارت الدول تبعث لنا مبعوثيها يتوسلون إعفاء رعاياهم من هذه ( الضيافة ) العراقية الثقيلة .

     رامزي كلارك وزير العدل الأمريكي زار العراق عدة مرات للتباحث مع صدام ، ثم زار العراق جيسي جاكسون مطالبا السماح للأمريكان الموجودين في العراق بالمغادرة ، فسمح لهم بذلك .

     الروسي بريماكوف الذي يتكلم العربية بطلاقة زار العراق عدة مرات مبعوثا من قبل روسيا مرات ومن قبل الولايات المتحدة الأمريكية مرات أخرى ، كان ينزل عند صدام كصديق ويتباحث معه عن قرب .

عرضت الكويت والسعودية ودول الخليج على العراق أن يضع ما يريد من شروط مقابل الإنسحاب من الكويت ، لكن صدام رفض . فمثلما دفعه الغرب بطريقة غير مباشرة الى إجتياح الكويت ، نفس الغرب يعطيه الآن معززات غير مباشره تجعله يعاند على البقاء فيها ، رغم مطالبتهم له في العلن بالإنسحاب .

     كل هذه الخطة حيكت لتوصيل المنطقة بأكملها الى هذا الوضع الذي يخدم الغرب ونحن على مشارف حل الإتحاد السوفيتي وإنهيار العملاق الخشبي الذي أكلته الأرضة من الداخل .

     في فترة إحتفالات الكريسماس 1991 كنت في تلفزيون بغداد ، حين بدأت نشرة الأخبار .... ظهر فيها صدام وقال مخاطبا الجيش العراقي ، أننا دخلنا الكويت وليس هناك أي نية للتراجع عما فعلنا ، والغرب يعطينا مهلة حتى 16 من الشهر المقبل للإنسحاب وإلا فسيوجه لنا ضربة عسكرية.

     ثم قال صدام :  أنا الآن  ، وفيما بعد ، لن أعطي على الإطلاق أمرا بالإنسحاب من الكويت ، وهذا كلام عهد .  ولكن ربما الغرب الذي يملك تقدم تكنولوجي هائل ، قد يتمكن من تزوير صوتي أو صورتي ، أو يجلبون شخصا يشبهني ليعطوكم هذا الأمر بالإنسحاب بواسطته ، أنا أقول لكم منذ الآن ، حتى إذا ظهر صدام بالتلفزيون وقال لكم : إنسحبوا ، فلا تنسحبون .

تأملت هذا الكلام الخطير من ظاهر معانيه وباطنها . فشعرت بالهزيمة منذ الآن .

 نعم .. قد يبدو ظاهر الكلام نوعا من العناد والتمسك بالموقف .

      لكن تحليله من الداخل ينبيء أن صدام كان موقنا من الهزيمة ، ويعرف أنه سيعطي أمرا للجيش بالإنسحاب ، وهو يقول كلامه هذا الآن لأنه يراهن به على شق موقف الجيش ، بين فئة تنسحب وأخرى تعاند على البقاء ، فتتشكل منهم ( حسب إعتقاده هو) حرب عصابات طويلة الأمد قاسية الأثر .

      لكن هذا الأمل لم يكن إلا أملا ساذجا ، لأن الذي يراهن على حرب عصابات ، يجب أن تكون لديه أرض تخدمه ، أما الصحراء المنبسطة التي رأيتها بعيني والتي يسهل على هليكوبتر قهرها ، فأين يختبيء المقاوم فيها ؟ والأعجب من هذا : كيف ستدام إمداداته ؟ أكله وشربه وسلاحه وعتاده ؟ كيف سيوصل إليه ؟

      في الزمان القديم كانت توجد رومانسية في قيم الحروب ، حين يتبارز الرجال بالسيوف ، فيسقط الأعزاء منهم وتثخن جراح البقية ، فتستعمل الخناجر والرماح في المرحلة التالية حين يصل القتال الى مرحلة التنكيل ، وينتهي القتال في يوم أو بعض يوم .

 لكن حروب اليوم ليست على هذه الصورة على الإطلاق .

 نحن لسنا في أيام ثورة العشرين وهوسة ( الطوب أحسن لو مكواري ) .

 ولا في حرب الأيام الستة عام 1967 وأنشودة ( راجعين بقوة السلاح ) وفيما بعد النكسة ( لا تقل ضاع الرجاء ، إن للباطل جولة ) .

 ولا هي حرب 1973 التي دفننا بها اللواء المدرع العاشر العراقي في الجولان السورية .

ولا حتى الحرب مع ايران بدءا من ( هيه يا سعد يا جدنا ) مرورا ب ( يا كاع ترابج كافوري ) وصولا الى ( قرة عيونك سيدي ) .

      هذه حرب الليزر والديجتال ، ضد جيش نصف أساسيات تسليحه من خردة نهاية الحرب العالمية الثانية بيعت له بالمليارات كي يقاتل بها جيرانه الأغبياء ، فعلى مصداقية أي ( شبه تكافؤ ) يبني القائد قناعته الميدانية في إدخال الوطن الى حالة حرب !!! ؟

 أم أنه يقود الناس الى حتوفها بعبث ولا جدوى !!!! ؟

     وزارة داخلية ( سمير عبد الوهاب الشيخلي ) أقضت مضاجع العراقيين تلك الأيام بالتجارب الحية على ممارسات الإخلاء من بغداد ، وأرعبت البغداديين عما يمكن أن يحدث لهم عندما ستقع الحرب .

     أما وزراة ( حسين كامل ) وزير التصنيع العسكري فقد فكت معظم الأجهزة الحساسة والغالية من دوائر الدولة وأخفتها في مواقع ، يعتقد ، أنها آمنة .

     وزارة ( لطيف نصيف جاسم الدليمي ) وزيرالثقافة والإعلام ، كانت قد أترعت في التعب من قبل بدء المواجهة ، بتلك الممارسات العشوائية التي خطط لها وأدارها ، أمراء الذباب ، من لابسي الخاكي والزيتوني ، وحين بدأت الحرب ، كان على تلك الوزارة أن تذهب لتنام .

يوم 14 / 1 / 1991 إستدعاني المدير العام الاستاذ سامي مهدي مدير عام الإذاعة والتلفزيون ، وتكلم معي عن وضع التلفزيون أثناء الهجوم المرتقب ، وسألني إن كنت أوافق على التواجد في محطة تلفزيون الموصل خلال تلك الفترة ، قال إن كل الزملاء سيكونون مشمولين بالدوام ومن المؤكد أن تلفزيون البصرة سيقصف وكذلك تلفزيون بغداد ، والمطلوب مني ومن مذيع زميلي مصاحبة مجموعة من المحررين والمخرجين وفنني البث ، للتواجد في حالة طواريء في تلفزيون الموصل .

 سألته إن كان يعتقد أنني بوضعي الصحي أستطيع أن أقدم عملا يتناسب مع حالة حرب !؟

 فقال : ليس المطلوب منك غير أن تعملي لعدة ساعات ، ريثما نصل كلنا الى الموصل وبعدها نعطيك إجازة مفتوحة .

وافقت على الذهاب .

فأخذتني على الفور سيارة التلفزيون الى البيت ، كتبت رسالة الى زوجي وضعتها على التلفزيون .

 جمعت بعض حاجياتي في حقيبة صغيرة ولبست معطفا ثقيلا وحملت شالا صوفيا ثقيلا وغادرت البيت .

أخذني سائق التلفزيون الى مطار المثنى ، حيث حملت فريقنا طائرة صغيرة الى الموصل .

 هناك نزلنا في مطار عسكري ، وأخذتنا منه سيارة عسكرية الى تلفزيون نينوى .

      إستقبلنا مديرالتلفزيون بالترحاب ، خصص غرفا في مبنى التلفزيون لإقامة الزملاء من أجل تواجدهم في الدائرة 24 ساعة يوميا .

 أما أنا فقد حملتني سيارة التلفزيون الى فندق ( نينوى _ أبروي ) حيث إستقبلتني مديرة الفندق الهندية المس كانجي بترحاب وقالت إنها خصصت لي غرفة في الطابق الخامس تطل على أجمل منظر في مدينة الموصل ، وأعطتني أرقام هواتفها الخاصة فيما لو إحتجت لأي شيء .

يوم 15 / 1 /1991 ذهبت صباحا الى التلفزيون ... كانت الموصل زمهريرا من البرد . ورغم أني لففت نفسي بالمعطف الثقيل والشال ، إلا أنني كنت أختض بردا .

     عاينت أستوديو البث وتأكدت من جميع المستلزمات ، ثم ذهبت الى المكتبة ، إستعرت ديوان أبو نؤاس وكتاب العقد الفريد لإبن عبد ربه ، وكتاب ول ديورانت قصة الفلسفة .

عدت الى الفندق ، كان دافئا ينسيك برودة الخارج ، لذلك لم أغادر الفندق وطلبت عدة مرات أكوابا من الحليب الدافي .

عصر يوم 16 / 1 / 1991 شعرت بتوتر غريب وقلق بسبب تفكيري أن المهلة المعطاة للعراق بالإنسحاب ستنتهي خلال ساعات .

ما الذي سيقع ؟؟

 لا حول ولا قوة إلا بالله .

      قمت من مكاني ، فتحت باب البلكونة ، فصدمتني لفحة قارصة من الهواء البارد ، كانت الموصل وادعة تتمدد تحت شفق الشمس الأحمر . 

 ورغم برودة الجو إلا إنني كنت أشعر كأن حجرا في صدري يمنعني من التنفس . وانا أنظر الى الموصل تلك اللحظة ومن ذلك العلو ، مر سرب من الغربان السود فوق المدينة أعطى دلالة رمزية عن ما سيقع زاد من إنقباضي ووحشتي .

عند التاسعة مساءا رن الهاتف في غرفتي ، وكانت المس كانجي هي المتحدثة ، سألتني : لماذا لم أنزل للعشاء ، وهل أرغب في أن يصعد الأكل الى غرفتي ؟

 قلت لها : لن أتعشى ، وقمت أخذت حماما دافئا وخففت الإنارة وحاولت أن أنام .

      لست أدري كيف غفوت ، وكأني أحلم ، سمعت أحدا يصرخ بإسمي وأصوات طرق على باب .

 فتحت عيني ، كان الظلام دامسا ، وفعلا هناك أصوات طرق عنيف على بابي ، تلمست طريقي بإتجاه الباب وصرخت : من يطرق الباب ؟

قالت : أنا المس كانجي .. ميسون إفتحي الباب .. بدأت الحرب .. يجب أن تنزلي للملجأ .

 حين فتحت الباب ، وجدتها تحمل شمعة ومعها رجل من خدمات الفندق يدفع كرسيا بعجلات ، أجلسوني علي الكرسي  ودفعوني على سلم الطواريء راكضين 5 طوابق للنزول الى الملجأ .

إ    ستعمل الأمريكان قاعدة أنجرلك التركية لبدء الحرب على الموصل وكان أول هدف تم قصفه في تلك اللحظات هو مخازن بادوش للذخيرة والعتاد الذي ظلت الإنفجارات متواصلة فيها مدة أسبوع ، كل عدة دقائق يثور كدس ويتفرقع ، راجا جميع أنحاء  الموصل رجا عنيفا .

عند السابعة والنصف صباحا أخذتني السيارة الى بناية التلفزيون ، وكان يعاد خطاب صدام الذي أعلن فيه بداية الحرب بقوله ( غدر الغادرون فيانار كوني بردا وسلاما على العراقيين ) .

    كنا على أهبة الإستعداد لنبث من الموصل بين لحظة وأخرى .

    عند الرابعة عصرا ، وكان بث بغداد عاديا ، تسلمنا نشرة أخبار ظهر فيها صدام يتمشى في شارع المتحف في منطقة الكرخ ويتكلم مع مواطنين عراقيين عن الأهداف التي قصفها الأمريكان ويسألهم عن معنوياتهم .

    حاولت الإتصال بأهلي أو أهل زوجي هاتفيا لكن الخطوط كانت ضعيفة جدا ، فقال لي موظف البدالة : بعد العاشرة مساءا تصير الإتصالات أفضل .

    بعد 11 مساءا نزلت الى البدالة لإجراء المكالمات الهاتفية الموعودة ، فجاءت طائرة أمريكية وقصفت تلفزيون نينوى . ضربتنا ضربة مؤثرة في أجهزة الإرسال بما يعني أن محطتنا لم يعد يرتجى منها أي أمل .

في اليوم التالي علمنا أن نفس تلك  الضربة وجهت الى تلفزيون بغداد والبصرة في نفس اللحظة ، وكل هذا ليس مهما .

 لكن المهم ، أنهم قصفوا في نفس اللحظة شبكة المايكروويف التي تربط الإرسال في العراق ، وذلك يعني إنهاء عمل الإعلام .

إنتهى ... أقفلوا أفواهنا .

حالة الهلع التي عمت المحطة أثناء قصفها كانت كبيرة ، ونحن لا ندري ما هي خطوتنا التالية  !!؟؟

 الحرب مع إيران برعاية أمريكية مزدوجة للطرفين ، هي ليست الحرب مع أمريكا نفسها .. معادية تماما للعراق .

حملتني على الفور سيارة التلفزيون الى الفندق ، وكنت في غاية التعب وخائفة فعلا .

     صباح اليوم التالي جاءت لنا التعليمات بتغطية بث لمدينة الموصل وحدها  ، لهذا أخذتنا سيارة التلفزيون الى موقع مرسلات خارج المدينة ، ملحق به أستوديو بث .

 أعطينا إشارة البث التي هي عبارة عن موسيقى وخطوط بكل الألوان ، وقبل أن نفتتح بالسلام الجمهوري .. بدأت هواتف المكان كلها ترن مرة واحدة ، ولا أدري من رفع السماعة وسمع صوتا يقول : غادروا المكان .. المبنى سيقصف .

خرجنا نركض .. كانت القاصفة طائرة كبيرة وثقيلة تطير بمرافقة طائرتين صغيرتين لحمايتها . قصفوا المرسلات وغادروا عائدين الى قاعدة انجرلك التركية .

      لن أحكي عن مقدار الإحساس بالألم والإهانة والخوف الذي يثيره كل هذا ... أنا إمرأة حامل في شهري السابع .. ماذا يتحتم على الآن ؟؟ أبقى في المكان وأموت ، أم أتصل بالإدارة وأقول لهم أني أريد العودة ؟ مضحكة هذه الجملة أليست كذلك ؟ هل يوجد جندي يأخذ إجازة عندما يبتديء القصف ؟

     في اليوم التالي قصفت الأتصالات ومنظومة الكيبلات المحورية فإنقطعت الأتصالات المدنية والعسكرية ، وصار الأمر حين يصدر من بغداد لا تدري كيف يصل بقية أنحاء العراق على التو واللحظة .

عندها تعين أن كل محافظ سيكون القائد الميداني لمحافظته لتأمين إحتياجاتها بالمتوفر من أمر أو إتصال مع القيادة في بغداد .

     عندها دعت قيادة محافظة نينوى كل الوفد الإعلامي القادم من بغداد .. وأوصلتنا الى ملجأ ذري على أطراف الموصل فيه أستوديو بث ، قيل لنا أننا لو بقينا فيه شهرا كاملا فهناك ما يكفينا من الماء والغذاء والأوكسجين .

 بدأ الفنيون بتشغيل أجهزة الإرسال وإعطاء إشارة المحطة ... فجاءت القاصفة .. قصفت برج الإرسال وضربتنا صاروخين على باب الملجأ .

بعد ربع ساعة قيل لنا : إن الباب أقفل علينا . وهذا يعني أن المكان سيكون قبرنا اذا تعذر فتح الباب ، أو إذا لم يلتفت أحد الى إنقاذنا .. واتصالاتنا مقطوعة مع الخارج ، ولا ندري ماذا هناك والى أي حال صارت الأمور .

بين اليأس والرجاء ، بين الأمل والقنوط ، تضل ولا تدري ماذا تفعل .

     شعرت بجوع غريب لم أشعر به كل حياتي ، لكن فكرة أي طعام مهما كان شهيا كانت تصيبني بالغثيان .

     مددت يدي في حقيبتي وأخرجت ديوان أبو نؤاس المجلد بجلد أحمر وفتحته ، قرأته يقول : دع عنك لومي إن اللوم إغراء  . أغلقت الكتاب بعصبيه وأعدته الى حقيبة يدي .

     زميلي المذيع كان معي في نفس قاطع المكان ، لكننا لم نكن نتحدث ، كل واحد كان يكلم نفسه وهمومه . ولم يكن ينقصني غير إنهيار زميلي لتكمل علي جميع عوامل الأزمة .

     ما كنت أنظر إليه حين سمعته يضرب على أفخاذه بكلتا يديه بقوة  ويصرخ : يا أخوة القحبة .  

    الرجل مهذب جدا ولم تصدر منه كلمات مثل هذه إطلاقا . عندما فعل ذلك عرفت أنه إنهار .

    إحتضنت نفسي وكأني أقول لطفلي الذي في بطني : أنت وأنا أقوياء ولن ننهار . وإلتفتت الى زميلي وقلت له : أرجوك إصبر لم تمض إلا عدة ساعات ، وربما يحتاجون وقتا أكثر من هذا لإخراجنا .

    فأجابني وهو يغلي : أخوة القحبة المثقفين والصحفيين العرب ومثلهم أخوة القحبة رجال الدين من منظمة المؤتمر الإسلامي ، جاؤا باركوا له خطوة الحرب ، هتفوا له حي على الجهاد حي على الفلاح ،، أخذوا ملايين الدولارات وكل واحد سيارة مرسيدس ، ورجعوا لبلدانهم وتركونا ناكل خرا وحدنا ،، القواد الذي يدعو الى الجهاد أليس من المفروض يبقى يجاهد مع دعوته ؟؟

قلت له وأنا أشير بيدي وعيني على الجهة التي يتواجد بها بقية فريق العمل : يا فلان الله يخليك .. ما نحتاج مشاكل إضافية بعد ما نطلع من هنا .

فنظر إلي بإستخفاف وقال : أنت عاقلة ؟؟ من كل عقلك تعتقدين سنخرج من هنا ؟؟

    وبدأ ينتحب بصوت عالي ثم قال : إبنتي الصغيرة عمرها خمس سنوات .. كيف أدفن هنا وبعد ما أشوفها ؟؟

تركته وحده وتوجهت الى المكان المخصص لي .. ترى ما هو شعور الإنسان الذي يدفن حيا ؟ في تلك اللحظة تذكرت الشاعر غازي ثجيل الذي سمعت أن صدام أمر بدفنه حيا ربما عام 86 أو 87 ، أنا لا أصدق مثل هذا الكلام ، المخيلة الخائفة يمكن أن تروي حكايات لا أساس لها من الصحة .

     كنت أرى غازي في الإذاعة بصحبة الفنانة مائدة نزهت أو الفنانة أنوار عبد الوهاب فقد كان يكتب لهما كلمات أغانيهما . أسمر ، ربع القامة ، يرتدي دائما بدلة لونها أصفر كموني . أظن هو الذي كتب لمائدة نزهت كلمات أغنية ( سألت عنك ) ، ولكن حتى لو كان غازي قد دفن حيا فعلا فإن عزاءه أنه مات بعد فترة قصيرة من دفنه ، أما نحن فسيذلنا الموت شهرا الى أن يبدأ بخطفنا واحدا بعد الآخر .. وحين يأتي دوري فسيأخذنا إثنين ... أنا وإبني .

وأنا جالسة على كرسي ، غطيت نفسي ببطانية ، وبدأت أبكي وأغني :

سألت عنك الليالي اليمرن

ليلة .. ليلة

سألت عنك كل حمام الدوح

كل ورد الخميلة

سألت عنك وأنت للملهوف

سفانه ودليله

ويه كل نبضة قلب

أغرق محنة يا حناني

وويه كل طلعة شمس

ينساني قلبه وما إجاني

سألت عنك ... وبس هجر منك لقيت

    نمت نوم هروب من الواقع ثقيل جدا .. شعرت بدفء شديد ، فتحت عيني فرأيت الشمس تشرق في كبد السماء وانا ممددة في خندق بين خنادق الجنود في طريق الأثل والطائرات الحربية تلقى علينا قطعا من حديد تنفجر لتتحول الى أمواس طائرة ، تذبح آلاف الإبل وتسقطها أرضا تفور منها نوافير من دم .

    شعرت بحركة غيرأعتيادية في المكان ، ولم أدر هل أنا نائمة أم صاحية .

    فتحت عيني فإذا برجلين بملابس الدفاع المدني يحملان نقالة .. قالا لي : الحمد لله على السلامة ، ثم وضعاني على النقالة وحملاني خارج الملجأ .

    خارج الملجأ قيل لنا إن الجهد الهندسي العسكري عمل 8 ساعات من أجل إخراجنا . السيد المحافظ قال لي : الحمد لله على السلامة ، ثم أمر سائقه بأخذي الى محطة القطار .

ولأني كنت قلقة من تمديد الواجب ، قلت له بهلع : أستاذ وين أروح ؟؟

قال : براحتك .. إرجعي لبيتك اذا تريدين .. الإعلام خلاص ، توقف تماما .

سائق المحافظ سلمني الى إدارة محطة القطار وقال لهم : هي أمانة عندكم الى أن توصل بغداد .

الشخص المسؤول عن أمن القطار أمرني أن أقفل مقصورتي ولا أفتح الباب إلا إذا سمعت صوته هو يأمرني بفتحها .

 وعند 11 مساءا إنطلق بنا قطار الليل عائدا الى بغداد .

 لم أنم ولا دقيقة واحدة .

وعند 4 والدقيقة 15 فجرا .. ومن مقصورتي في القطار شاهدت سربا من مئات الطائرات دخلت العراق من حدوده الغربية ، ثم تفرقت الى مجموعات كل متجهة الى هدف محدد .

بعد 5 دقائق توقف بنا القطار وأوامر بمكبرات الصوت أن غادر القطار وإبتعد عنه قدر ما تستطيع قد نتعرض للقصف .

 مع كل رعب الموقف .. كنا في العراء ، في ساعة فجر ، شهر كانون الثاني حيث الجو مثلج ، وأصوات عواء ذئاب يسمع من بعيد .

ثلاثة أرباع الساعة وإنتهت الغارة فدوت صفارة القطار لتنبيهنا بالعودة إليه .

 لست أدري لم خطر على بالي ساعتها أنهم قد ينسوني في المكان وحدي ، لذلك وضعت كفي تحت بطني ، حملتها بهما وركضت بإتجاه القطار .

عند الثامنة والنصف صباحا كنا في المحطة العالمية في بغداد .. كل الذين نزلوا من القطار كانوا جنودا ، وكل الذين في المحطة كانوا جنودا ،، لم يكن هناك مدنيون .

 

   غادرت المحطة العالمية  ،  بغداد كانت مدينة اشباح ، اذا تدور حول نفسك 360 درجة فلن تشاهد غير عواميد الدخان ترتفع من كل مكان .. بغداد كانت تشتعل .. وليس هناك إنسان أو واسطة نقل في الشارع .

 سيارة شرطة نجدة متوقفة قرب المحطة ،، سلمت عليهم وطلبت منهم توصيلي الى بيت أهلي ، حين وصلنا ، كان بيت أهلي مقفلا وقد ترك الأهل ورقة تقول إنهم خارج بغداد .

طلبت من الشرطة أخذي الى بيت أهل زوجي ووجدنا بيتهم مقفلا  أيضا .

عندها طلبت إيصالي الى بيتي .

 بعد ساعة من وصولي الى بيتي إكتشفت أن بيوت شارعنا مقفلة كلها عدا بيت في نهاية الشارع فيه سيدة متقدمة في السن وولدها المراهق .

 إتفقنا على أن نهتم ببعضنا ما دمنا لوحدنا في الشارع .

 لا أحد يعرف معنى العيش في مدينة مهجورة ، عدا عن غارتي الفجر والمغرب الرئيسيتين ، تضربها بينهما عدة غارات متفرقة .

 وأنت لا تدري اذا حصل شيء فمن سينجدك وبمن تستنجد .

قضيت عدة ايام طويلة مملة مليئة بالخوف من المجهول في البيت .

 كانت تربكني فيها بشكل كبير غارات الفجر والمغرب التي تعودت أن أنام بعد أن تنتهي المسائية منهما وأصحو مع الصباحية .

يتآكلني الخوف في حي مهجور .

 الى أن جاء اليوم الذي تقرر فيه أن يكون ( عرس ) غارة المغرب على فرع أبو جعفر المنصور لحزب البعث العربي الأشتراكي الذي لم يكن يفصل بيتنا عنه غير عبور الشارع .

 طبعا الفرع كان فارغا من كل شيء ، البشر والآثاث والوثائق ، لكن الطائرات أصرت على ردمه بصورة عجيبة ، رمي بما يزيد على ألف إطلاقة من مختلف الأنواع ، صواريخ وقنابل إضافة الى زخات الرصاص ، صوتها مدوي أكثر من المعتاد كأنما ركبت له مكبرات صوت ، وبين إطلاقة واخرى يلتمع فلاش أبيض يحيل المنطقة الى نهار كي تتمكن الطائرة القاصفة من تصوير حالات التخريب التي ألحقتها بالمبنى ،  ذلك مطلوب الان جدا ، للدعاية الإعلامية ، عن تدمير قوى الخير لا سامحها الله ، لعراق ( الشر ) المغلوب على أمره .

 ماذا تطلب محطات البث الإذاعي والتلفزيوني لتقوله ( للسذج ) من مستمعيها ومشاهديها ، غير ذلك ؟؟؟

    كان سريري الخشبي الثقيل جدا يهتز كأنه ( كاروك ) ، بينما تصر أبواب وشبابيك البيت مع الصعق الذي تسببه الإطلاقات وكأننا في مهب الريح .

لوهلة شعرت بخوف حقيقي من الموت متنائرة الأشلاء ، دون أن يدري عني أحد شيئا في هذه المنطقة السكنية الفارغة .

يا الله الرحيم .. هل أنت الذي قلت في محكم كتابك العزيز في سورة الحج :  يا أيها الناس إتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ؟؟

الله ... يا الله ... يا ربي الرحيم .. أين رحمتك ربي ؟؟

ربي هل تراني الآن ؟ ... تحركت أحشائي وقذفت إبني الى الخارج .. أين رحمتك ؟ ومن سيسعفنا ؟؟

حملت إبني من رجليه وضربته على ظهره فصرخ ... على ضوء الشمعة حملته بين ذراعي وركضت الى أقرب مكان ، أحضرت خيوطا ومقصا ، عقمت المقص على لهب الشمعة ، وضعت الولد على السرير وشبرت شبرا أبعد من بطنه وربطت بالخيط حبله السري ثم قطعت الباقي بالمقص . نزعت الروب السمائي الذي كنت ارتديه ولففت إبني به ....

الله ... يا رب العزة الذي وسعت رحمته كل شيء ... المشيمة لم تزل في بطني وأنا أنزف مثل الشلال .

يجب أن أخرج المشيمة وإلا سأموت هنا وحدي دون أن يعرف عني أحد شيئا . تذكرت درس الإقتصاد المنزلي الذي درسناه في الإعدادية ... كيف ننزل المشيمة يا الله ؟؟

وضعت أربع أصابعي في فمي ودفعتها الى بلعومي ، باغتتني رغبة ملحة للتقيؤ ، فإندفعت المشيمة الى الخارج ساقطة على الأرض ... الله .. إذا لم تسعفني فلن يسعفني أحد .

بقيت أنزف وهناك ألم حاد في بطني ، وهذا يعني أن قطعة من المشيمة لم تزل في الداخل ، كررت محاولتي في التقيؤ عدة مرات دون فائدة . سحبت معطفي الأسود الثقيل ، لبسته وحملت إبني الملفوف بالروب ، وخرجت أركض الى الشارع ، قاصدة بيت جارتي أم عادل ، ساحبة ورائي بركة من الدم .

_ أم عادل .. أم عادل إلحقيني راح أموت .

خرجت تلك العراقية الأصيلة لترى ما بي . أمرت إبنها الذي بالكاد يعرف كيف يقود سيارة بإخراج سيارة أبيه من الكاراج ، جلسا في الأمام وأنا في الخلف .

من المنصور توجهنا الى مستشفى الكرخ للطواريء فلم يستقبلونا .. قالوا إنهم لا يقبلون حالات الولادة . لا أدري من اين إنعطفت السيارة تحت جنح الظلام والقصف لنصل الى مدينة الطب التي رفضت هي الأخرى إستقبالنا لنفس السبب .

نزلت جارتي الطيبة من السيارة وبدأت بالعراك والصراخ ، قالت لهم : ستموت .. أين نذهب بها ؟؟

قيل لها : إذهبوا الى مستشفى العلوية للولادة .

هل يعلم أحد ما هو طول الطريق بين مستشفى مدينة الطب ومستشفى العلوية للولادة .. تحت جنح الظلام .. وفي ساعة غارة ؟؟

حوض السيارة الخلفي .. صار حوضا للدم .. أنا النحيفة ، صغيرة الحجم .. من أين لي كل ذاك الدم !!! ؟ لست أدري .

حين وصلنا مستشفى العلوية .. عادل وأمه ركضا الى الداخل وجلبا كرسي بعجلات  جلست عليه ودفعاني ركضا الى الداخل .

حين رأيت الطبيبة صرخت ملتاعة : دكتورة إلحقي ... إبني راح يموت .

أخذته مني .. فحصته على ضوء شمعة ، ثم قالت : ولدتيه خديجا منذ خمس ساعات ، وهذا يعني أن أوكسجين كفاية لم يصل الى دماغه ، ومن المحتمل أن ذلك سبب له تلفا في الدماغ ، لذلك لن أضعه في صالة الخدج ، سنتركه هكذا ، إن كان قويا وعاش ، فهذا من حظه ، وإذا مات .. أنت يا ميسون أمه .. محتاج رحمتك أنت أول الناس أن لا تدعيه يعيش مختل عقليا .

وعلى أرض نفس الغرفة التي كنا فيها ، مدت بطانية ، تمددت فوقها ، أجرت لي على ضوء نفس الشمعة عملية تعذيب جديدة إسمها إخراج ما تبقى من المشيمة ، حين أفقت على نفسي فيما بعد وجدت حتى شعر رأسي مبللا بالدم .

أخذت إبني الى حضني .. أعطيناه كلوكوز برضاعة صناعية .. وكان يحرك رأسه ويديه ورجليه ، ثم بدأ لونه يتغير ، عندها عرفت أنه يحتضر ، ومات عند الخامسة صباحا حين رنت صفارة إنذار غارة الفجر .

غادرنا المستشفى عند السابعة والنصف صباحا بعد نهاية الغارة ،، كنت أضم إبني الى صدري بقوة مثل المجنونة .. وأم عادل الطيبة تحمل كيس أدويتي الذي رفضت  أن أتسلمه .

عدنا الى بيتنا في المنصور عبورا على الجسر المعلق ، كانت هناك غارة خاصة بالقصر الجمهوري لم تنته بعد .... صواريخ كروز الذكية الموجهة عن بعد كانت تسير معنا في الشارع بإرتفاع أعمدة الكهرباء .

حين عدت الى البيت ... غسلت إبني وكفنته بشرشف سرير جديد وغير مستعمل ، وربطته جيدا عند الرأس والقدمين ، ثم ذهبنا الى المقبرة .

 أعطيت الحارس عدة دنانير فحفر قبرا صغيرا شعرت أنني أنزل فيه قبل إبني ، ولم أزل هناك حتى اليوم .

يقول نيتشه في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ) : رب أبوة أو أمومة خير منها اليتم . إبني لم يفضل اليتم علي ، لكنه فضل الموت ، فكم انا أم بائسة لا أستحق الحياة ، لأني لم استطع حماية إبني من خوفي !!؟

 تفو عليك يا ميسون

 خفت من غارة قام بها الجبناء على بناية فارغة فقتلت طفلك ؟؟

 تفو تستحقينها عن جدارة يا جبانة .

أصرت جارتي الطيبة على أن ابقى عندها تلك الليلة ،، كنت واجمة وحزينة ومغلوبة على أمري تماما .

 لم أتكلم مع أحد بكلمة واحدة لكني كنت أحمل راديو ترانزستور صغير أحاول به العثور على بث الإذاعة العراقية ، ولم أعثر عليها ، لكني سمعت بوضوح شديد نشرة الأخبار من إذاعة أوربا الحرة من أمستردام ، ذكر فيها أن الجسر المعلق الذي عبرنا عليه هذا الصباح كان قد تعرض الى القصف مما أدى الى قطعه .

    رفضت إستعمال أي دواء ،، عاملت نفسي بالمثل كما عومل إبني ، قلت مع نفسي : إذا كنت قوية سأعيش وإن لا فالموت رحمة .

لكن الموت لم يرحمني رغم إصابتي بحمى رهيبة ، أفقت منها بعد عشرة ايام لأرى بقع الدم ما زالت تغطي كل ركن في بيتي .

 وأتعس حالاتي كانت حين تبدأ غارة الفجر أو المغرب .

 على وقع الإطلاقات كنت أتذكر تفاصيل ولادة إبني وموته بتفصيل عجيب .

لم تعد لي أي رغبة بالحياة .. فقررت البحث عن موتي .

بحثت عن مكان الإذاعة العراقية فقيل لي إنه في ملجأ واقع في العامرية قرب نفق الشرطة . الملجأ كان يستقبل الناس وجزء منه مخصص كإذاعة ربما تغطي دائرتها كيلو متر واحد من بغداد . بدأت أذهب هناك كل مساء ، أجلس بين الناس المحتمية بالملجأ وأنا أعرف أن لا حامي من الموت .. والملجأ الذي قصف علي في الموصل خير شاهد .

في إحدى الأمسيات وانا أدخل الملجأ ، سلم على ضابط دفاع مدني من أقربائي وخبرني أن ( السيد الرئيس محتمل يبات اليوم معنا في الملجأ ، لأنه البارحة قضى الليل في الملجأ المجاور لنا هو وضيفه بريماكوف ) . في تلك الأيام العصيبة كان بريماكوف يقوم بوساطة بين صدام والأمريكان ، لإقناع صدام بإعطاء أمر للجيش بالإنسحاب .. رغم القتال الدائر .

جلست في الملجأ على الأرض وأسندت ظهري الى الجدار .. ساكتة أنتظر الموت .

عند الرابعة والدقيقة 17 عمت حركة غير إعتيادية في الملجأ ، قمت وسألت عما هناك .. قيل لي : إن الملجأ القريب منا والذي كان صدام نائما فيه البارحة قد تم قصفه . وفي تلك الدقائق إنطلقت سيارة من الإعلام الى موقع الحادث أصررت على مرافقتها .

وصلنا في أقل من 5 دقائق الى المكان حتى من قبل وصول فريق الدفاع المدني ، عند توقفنا ، رأينا سيارة عسكرية قادمة ، نزل منها صدام وبريماكوف لتفقد الموقع الذي كانا ينامان فيه مطمئنين الليلة البارحة ، وقد اصبح محرقة لما يقارب 2000 إنسان إشتعلوا الى حد التفحم .

حين فتح الدفاع المدني الباب وبدأوا بإخراج المتفحمين ... فإنك تنسى كل صور البشاعة التي شاهدتها ولكن من المستحيل أن تمحى من ذاكرتك رائحة الشواء البشري المتفحم .

جريمة قصف ملجأ العامرية ، جريمة أرتكبت بدم بارد ، ولم تقع عن خطأ ، وإنما عن تصميم مدروس . بريماكوف كان يفاوض صدام نيابة عن الأمريكان حول الإنسحاب ، وصدام من موقعه كقائد كان يتصور أنه يمكن ان يعطي أقسى الخسائر دون ان ينسحب .

 حين قصفوا له ملجأ العامرية الذي كان ينام فيه البارحة ، قالوا له بفجيعة من حريق : إترك وهم القيادة ، فهذه الحرب ليست أكثر من لعبة بالنسبة لنا ، وحتى تعرف جودة لعبنا لها ، تفرج بعينك على وهم المكان الآمن الحصين الذي كنت تنام فيه الليلة الماضية .

بعد يومين ،، أعطى صدام أوامر للجيش بالإنسحاب ، فتقهقرت القوات العراقية تاركة سلاحها في مكانه ، ومن إستطاع ركوب سيارة أو عجلة ، عاجله القصف على الطريق ، ومن لم يتمكن .... عاد مشيا على قدميه .

الخنادق التي شاهدتها بعيني ممتدة من المطلاع حتى طريق الأثل ، مات فيها بلا قيمة موتا أسودا نصف مليون جندي ... ويعلم الله كم من الإبل والأشجار .

حين أنسحب الجيش العراقي من الكويت ... تم تفجير آبار النفط الكويتية ، ربما فجرها العراقيون مثلما قيل ،، وربما والله أعلم ، فجرتها القوات المتحالفة لتحرير الكويت ... فشركات إطفاء وتصليح منشآت النفط الأمريكية بحاجة الى عمل في هذه الحرب ، عمل تدفع أجرته حكومة الكويت .

بعد قصف ملجأ العامرية صارت الناس تبقى في بيوتها ولا تذهب الى الملاجيء ، بعد يومين من إعطاء أمر الإنسحاب ، كنت في البيت ، عند الثانية والنصف ظهرا ، أظلمت الدنيا ظلاما دامسا بفعل سحابة دخان كثيف أسود قادم من الكويت من آبار النفط المشتعلة ، وأمطرت السماء علينا مطرا أسودا حامضيا جلل بسخامه كل البيوت .

لوحة زيتية أخرى من لوحات الحرب تسخر من كل أعمال بيكاسو وسلفادور دالي ترسم صورة رمزية للسفالات التي يتعرض لها المدنيون العزل في زمن الحروب التي لا داعي لها .

تمددت في السرير لأنام نوم هروب من الواقع الثقيل جدا .. محتضنة الروب السمائي الذي كان يلف وليدي منذ لحظة ولادته حتى لحظة موته ،، ورأيت نفس الحلم الذي رأيته في ملجأ الموصل عندما أقفل علينا .. شمس ساطعة وانا أتمدد في خندق بين خنادق الجنود وهذه المرة أحمل قاذفة على كتفي أرمي بها على السماء ، وطائرات قاصفة ترمي علينا قطعا من حديد تنفجر متحولة الى أمواس تذبح الإبل والجنود فتتصاعد منهم نوافير من الدم .

بعد 45 يوم من الحرب أعلن وقف العمليات العسكرية ،، كنت مهدمة تماما وأبحث عمن يقتلني . فقلت عل وعسى تقصف الإذاعة مرة أخرى .

 ذهبت الى دائرة الإذاعة والتلفزيون في الصالحية فرأيت الطائرة القاصفة قد حولت لنا مجمع البث الى ذرات تراب متناثر وحفرة عمقها 15 متر  ، فإتصلت بزملائي في الملجأ ، عندها رأيت الأستاذ سامي مهدي الذي أبلغني بالتواجد ذلك اليوم في بناية التلفزيون التربوي في الأعظمية لأن فيه الأستوديو الوحيد الذي لم يقصف في كل العراق .

كنا أربعة فقط : المدير العام ، والمخرج ، وفني الصوت ، وأنا  ، إفتتحنا البث من التلفزيون التربوي عند السادسة مساءا ، بغداد كانت غافية في ظلام وليس فيها كهرباء ولا أدري لمن كنا نبث ؟؟

 القصص المهولة عما كان يحدث في المحافظات الجنوبية كانت قد وصلتنا رغم عدم وجود إتصالات ، وكان المتوقع أن  تقع نفس القصص في الشعلة والثورة وبقية المناطق التي تسمى ( أطراف المدينة )  .

وعلى قدر ما كان ذلك يثير خوفي .. على قدر ما كنت أتمناه .

كنت أبحث عمن يقتلني .. لأن زهوي الإنساني وبعد كل ما حدث كان قد مات .

    ذلك الأسبوع من العمل مع الأستاذ سامي مهدي .. يهددنا خطر مجهول لا تدري من أين سيأتي .. أو كيف سيأتي .. حملني إنطباعا رائعا عن إنسانية هذا الرجل .. إنطباعا يجعلني  أقرر : أنه لا يمكن أن يكتب الشعر .. إلا إنسان .

   عند الثامنة مساءا كنا نقفل البث . وتحملنا سيارة التلفزيون نحن الأربعة الى بيوتنا ، وبقينا نمارس هذه العملية يوميا لمدة أسبوع ، بعدها إزدات فترات البث ، وصار واحد من الزملاء المذيعين يأتينا يوميا من ملجأ الإذاعة لقراءة نشرة الأخبار .

في نهاية الأسبوع الثاني تمت إعادتنا الى الصالحية بعد تجهيز الاستوديو القديم الذي كنا هجرناه منذ العام 1976 .

بعد 20 يوم من إعلان وقف العمليات العسكرية ، كنت في البيت حين سمعت صوت مفاتيح تدورعند الباب ، ذهبت أركض ، أنفتحت الباب ، ودخل زوجي ، نظرنا الى بعضنا ومن دون أي كلمة  .. بدأنا بالبكاء ، بقينا حوالي شهر .. كلما نظرنا بوجه بعضنا نبدأ بالبكاء . فقد إنهار الوطن .. ومات العراق .

     توسل بي زوجي أن أراجع طبيبتي النسائية الأستاذة الدكتورة عفاف صائب شوكت الجبوري ، قال لي إن حالة الهزال والإرهاق التي أنا عليها ليست طبيعية الى حد بعيد ، لكنه كلما حدثني عن ذلك أذكر إبني وأبكي ، وأرفض العلاج .

أتصل هو بالدكتورة وأخذ لي موعدا وأجبرني على مصاحبته الى هناك ، دخلنا العيادة قبل وصول الدكتورة ، وفي موعد وصولها عم هرج ومرج في العيادة ، الدكتورة عفاف ... أم أيمن الغالية .. ماتت بنوبة قلبية مفاجئة عند باب عيادتها ، وهذه النوبة كانت قد قتلت الكثير من العراقيين نتيجة صدمتهم بالحرب .

ترى يا أم أيمن ... ماذا رأيت أكثر مما رأيت أنا .. لتموتي وأبقى أنا حية ؟

     بعد أقل من عام مات أخي وزميلي وصديقي مقداد مراد ، بعد صراع مرير مع المرض الخبيث الذي ظهرت عليه أعراضه بعد أسبوع واحد من قصف ملجأ العامرية .. حيف على ذلك الشباب والوسامة يا أبو ديار يضمك قبر .. وتبقى الحياة للناس العار .

بعد عدة أشهر من رحيل أبو ديار .. لحقه أخي وزميلي وصديقي الآخر رشدي عبد الصاحب .. غادرنا أبو وسام ، كواحد من خسائر الحرب غير المنظورة ، بعد أن أمضى عمره كله في الإذاعة ، كنا نعده عمدة التلفزيون .. والآن راح العمدة .

 

أعدت ( ما تبقى من الدولة ) قوائم لعق جراح الحزبيين والمواطنين ، تحت تسمية : أنواط إستحقاق ، أو انواط شجاعة .

أحمد الله لم يلحقني شيء منها ... وإلا ماكنت سامحت نفسي لو قبلت دية وليدي .. حتى لو كانت دية رغم أنفي .

الزيتوني العظيم .. رالف أمير الذباب .. إختلف مع الدولة على عدد أنواط الشجاعة والإستحقاق الممنوحة له ، غادر العراق في إيفاد .. ومن هناك الى أمريكا . هو حاليا مواطن أمريكي .. واحد من كبار من ينادون بإجتثاث البعث .

رجل يعرف من أين تؤكل الكتف .. لذلك قدرها جيدا ، أول رؤيته الثقب في قاع مركب البعثيين ، غادر المركب وركب موجة جديدة . ولو كانت هناك عدالة ، فهو وأمثاله من البعثيين أو غير البعثيين ، يستحقون إجتثاثهم من الإنسانية ضربا بالأحذية ورجما بالنعالات . 

فقدت إحساسي بالجمال .

فقدت إحساسي بالمتعة .

فقدت إحساسي بالسعادة .

الحياة ليست نعمة ، ولا هي نقمة ، لكنها تبقى مكان للعمل على أي حال .

وبهذه الروحية والمشاعر سأدخل الى عهد الحصار الذي أعقب الحرب . ومنه الى عهد التشرد بالغربة عن الوطن .

ولم أزل حية .

كم هي معذبة هذه الحياة .. وعليك قبولها مرغما .. شاكرا

artemona@gmail.com