http://www.alquds.co.uk/?p=205434

 

المثقف كمخبر سري الكتروني

هيفاء زنكنة

AUGUST 11, 2014

http://www.alquds.co.uk/wp-content/uploads/picdata/2014/08/08-11/11qpt697.jpg

 

بات من الشائع، لدى بعض المثقفين العراقيين، في الآونة الأخيرة، إتهام كل من يطرح تساؤلاً، يختلف بعض الشيء، عما يحملونه من رأي، حول الوضع العراقي الحالي، او العربي، بأنهم من «البعث الصدامي وجميع التكفيريين العنصريين والإخوان المسلمين وحارث الضاري وقناة الجزيرة القطرية وإسرائيل وتركيا».

ويمتد الإتهام، بذات النفس، ليصف الشخص بأنه عضو في «تحالف قائم بين داعش وبعث الدوري وضباط صدام وبعض المنظمات الاسلامية التي تمد يدها اليوم للسعودية وقطر فضلاً عن الإتفاق الضمني مع البارزاني».

ويتم تداول هذه الإتهامات، كما أخبرني عدد من الكتاب المُـستهدفين، عبر الإيميلات الشخصية وقوائم المراسلات الجماعية، ولأنها وصلت ، في الآونة الاخيرة، مرحلة التهديد، وخروجها عن نطاق الإختلاف بوجهات النظر أو تبادل الإيميلات بشكل شخصي، صار ضروريا النظر فيها، وعدم الاستهانة بها ودفعها جانباً، بل ومحاولة فهم ما تهدف اليه عموماً.

الملاحظ في هذه الإتهامات أنها:

 أولاً: جامعة، شاملة، اذ تعتبر كل الدول والجهات التي ورد ذكرها، باستثناء أيران، متآمرة عميلة. وأيـّة اشارة تفسر بانها إيجابية، بأي شكل من الاشكال، تجاه هذه الدول والجهات او الأفراد، يعتبرها، موجّه الاتهامات، عمالة لا تغتفر.

ثانياً: من يوجهها، يمتلك اليقين الكونكريتي والرؤيا النقية البلورية، في كل القضايا السياسية، حيث لامجال للتساؤل او الشك.

ثالثا: انها تجنـّب من يوجـّه التهمة ان يبدو مخطئاً، في حال حدوث اي تغير سياسي او توازن محلي او اقليمي، جديد، مما قد يستدعي إمتلاك ما هو أبعد من أحادية النظر العقائدية.

رابعا : انها تقدم نموذجاً غريباً في قراءة مجريات الأحداث؛ اذ تضع تركيا واسرائيل، في سلة واحدة، على الرغم من موقف تركيا الواضح الاخير من العدوان الاسرائيلي على غزة ومنذ الايام الاولى؛ وتضع قطر والسعودية في سلة واحدة، على الرغم من ان البلدين في حالة خلاف وصل الى حد القطيعة الدبلوماسية بسبب الموقف من النظام المصري؛ وتضع السعودية وداعش في سلة واحدة والسعودية تساند امريكا في قصفها ومحاربتها داعش؛ وتضع السعودية والحركات الاسلامية في سلة واحدة بينما تدفع السعودية مليارات الدولارات لنظام السيسي ليقضي على الإخوان المسلمين. 

ان قائمة التناقضات في الوضع السياسي الشرق أوسطي طويلة وبعضها بحاجة الى توضيح مطوّل، خاصة فيما يتعلق بالعلاقات الامريكية – العربية ووجود القواعد العسكرية في عدد من الدول العربية من بينها الكويت وقطر والعراق، وعلاقة أمريكا بالكيان الصهيوني؛ غير ان ما يسترعي الانتباه هو إنتقائية مـُطلقي الإتهامات في تفادي النظر الى دور النظام الإيراني، ولا أقول الشعب فنحن نعرف جيدا معنى القطيعة بين الشعوب والحكام المستبدين بالمنطقة، وتصوير كل من يبحث في دور النظام او حتى نقل بعض تفاصيل التقارير الحقوقية الدولية عن إنتهاكات حقوق الانسان بإيران، ناهيك عن تدخل النظام السافر والموثــّق بالعراق وإستخدامه إياه كحلبة كمال جسماني دمويـّة لإبراز العضلات في المفاوضات مع أمريكا ودعمه لأنظمة الإحتلال المتعاقبة، بأنه عميل «البعث الصدامي وجميع التكفيريين العنصريين والإخوان المسلمين وحارث الضاري وإسرائيل وتركيا» مرة واحدة وبذات السلة. 

يقول نيتشه «غالباً ما تكون العقيدة سِجنا» ، ومفهوم العقيدة هنا هو ذلك القالب الفكري الكونكريتي الجاهز، أو السلفية المصبوبة صباً، حسب المفاهيم الشائعة هذه الايام؛ وبالإمكان إستخدامها لوصف الشيوعية وحتى الليبرالية اذا ما كنا من المعتقدين بما مابعد الحداثة، الأمر الذي يدفعنا الى النظر في أسباب تحوّل بعض المثقفين الى سجانين عقائديين على ما يعتبرونه مغايراً، او في أحسن الأحوال، الى تنصيب أنفسهم عسساً في خدمة منظور إفتراضي في ألا يسمحوا للناس بالسير إلا في أزقة ضيقة يتمكنون من السيطرة عليها بحجة توفير الحماية للمارة. ان السجـّان العقائدي ليس وليد القمع السياسي، بالضرورة، بل قد يكون وليد حزب أو تيار أو دين أو مذهب، يزوده بمنظور عقائدي لا يـُحيد عنه، حتى إذا رغب بذلك، لأنه نشأ طفلاً وترعرع صبياً في كنفه.

ان توجيه الإتهامات الجاهزة عموماً، فِعل قمعي يمسّ حرية الرأي والفكر، وليس بالمستطاع التهرّب من آثار هذا الفعل بحجـّة السذاجة في حال المثقف الذي يجب ان يكون مسؤولا عن كل كلمة يكتبها.

أتذكر هنا ان من أوائل من حوكموا وأدينوا بعد تحرير فرنسا من الإحتلال النازي كانوا من الكتـّاب المتعاونين مع نظام فيشي وذلك لتوفر الأدلة ضِدهم عبر الكتابة. فعل الكتابة، اذن، مهما كانت وسيلة نشره، هو فعل مسؤول ويجب عدم الإستهانة به إطلاقاً.

في حالة توجيه الإتهامات، أرى انه فِعل يهدف الى تحقيق أربعة غايات:

الاولى هي احباط الكتاب الباحثين عن الحقيقة عبر البحث والإستقصاء وطرح التساؤلات والتشكيك بما يقدم الينا من معلومات صادرة عن مسؤولين و وكالات انباء، لكي تـُبلع بسرعة، كوجبة طعام ماكونالد الجاهزة؛ وحاضر شن الحروب ضد العراق حافل بوجبات ماكدونالد السريعة. لقد ابتلع كثيرون، قبيل غزو وتدمير العراق، أكاذيب أسلحة الدمار الشامل وكون الجيش رابع قوة في العالم. 

الغاية الثانية من توزيع الإتهامات هي تحويل الأنظار عن الإهتمام بالقضايا الأساسية من خلال إثارة مسائل ثانوية تـُـشغِل الكتاب والناشطين.

الغاية الثالثة: أقرب لمسألة الهوية المُرضية، أي أن هناك شحنة من العداء للنفس، والتماهي مع العنصرية الوحيدة المقبولة في الغرب تقريبا، وهي العداء المـُبطـّن والظاهر، احياناً، للعرب وللمسلمين؛ ولا شك في ان تشفـّي مواطنين من العالم العربي، على الإنترنت، بضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة، ورمي الفلوجة والرمادي بالبراميل المتفجرة يندرج في هذا الإطار.

الغاية الرابعة هي الإستهداف الشخصي عبر أداء مهمة من أسمـّـيه «المخبر السري الالكتروني»، اذ يهدف من يوجـّه الإتهامات الى إيصال المعلومات المشوّهة والمُضللة الى من يرصد المواقع والمراسلات الجماعية خاصة.

هذه الإتهامات التي تجعل الكاتب داعشياً وصدامياً واسلامياً متطرفاً وعميلاً لدول ومنظمات يندرج بعضها في قوائم «الحرب على الإرهاب» وفي أجواء قوانين «الإرهاب» المحمومة عراقياً وعربياً؛ ليس إختلافاً في وجهات النظر او الرأي.

انها تقارير استخبارية يكتبها مثقف صغير أي المـُخبر السري الالكتروني.

هيفاء زنكنة