هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الأولى

لو أن قوما من أحد الأرضين السبع حطوا في كوكبنا غدا ولم يكونوا قد سمعوا بأي من الأديان عندنا.... ثم تعرفوا فيما تعرفوا عليه على الأديان وسمعوا بابا النصارى يتحدث عن الرب المحب والرحيم وسمعوا الزعيم البوذي "الدلاي لاما" يتحدث عن حرمة قتل النفس الحيوانية  ثم سمعوا "القرضاوي" يحث الناس على قتل الآخرين بحجة أن ربه أمره بذلك، فهل يا ترى سيتخذ ايا منهم هذا الإسلام دينا؟

وأكاد أسمع أكثر من قعقعة وهمهمة تدور كلها حول القول بأن هذا ليس هو الإسلام الصحيح...لكنه لا يكفي الإدعاء بأن هذا ليس الإسلام الصحيح دون أن يقول لنا القائل ما هو الإسلام الصحيح إذن.

ذلك لأن المسلمين يعيشون في عالم متعدد الأعراق واللغات والأديان كما شاء تعالى أن يجعله على ما هو عليه من هذا الإختلاف حين شاء "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" ، "وإختلاف ألسنتكم وألوانكم" . أي إن العالم لم يكن ولن يكون يوما على دين واحد أو لغة واحدة لأنه شاء كذلك ولعلة ليس هذا مجال البحث فيها. وليس للمسلم أن يحاول أن يتجاوز هذه الحقيقة بالقول إن تكليفه هو أن يحول العالم للإسلام لأنه تعالى شاء ألا يكون الأمر كذلك. إن الإقرار بهذه الحقيقة يقود إلى القبول بأن العالم الذي نعيش فيه يتوقع منا أن نقدم تفسيراً مقبولا لسلوكنا سواء أكان ذلك فيما بيننا أو في تعاملنا مع الغير. والإحتجاج بان ما نفعله يتم بأمر إلهي ليس حجة لنا بل هو حجة علينا إذا لم نستطع أن نكون عقلانيين في التفسير والتسويغ.

فكيف يمكن لأي مسلم أن يرد على تساؤل غير المسلم اليوم عن علة ما يجري من قتل وخراب وتدمير في العالم الإسلامي وعلى أيد المسلمين أنفسهم؟ هذا إذا افترضنا أنه غيرمطالب بأن يشرح هذا الأمر للمسلمين أنفسهم لأنهم ربما رضوا به واقعاً حقيقياً للإسلام.

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح للغير سبب قدوم الشيشاني أو الأفغاني أو اليمني أو حتى البريطاني المولد إلى حلب لكي يقتل أناسا لم يسبق له أن عرفهم أو أن اساؤوا له؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح للغير سر هذا الحقد، الذي لا يمكن حتى وصفه بالوحشية لأنه لا يوجد وحش على سطح الأرض يفعله، هذا الحقد الذي يدفع إنسانا أن يبقر بطن آخر ويخرج أحشاءه وهو يدعي أنه يصلي خمسة أوقات للرب نفسه الذي أخبره عن خسارة إبن أدم حين لم يحسن دفن أخيه!

وكيف يمكن للمسلم أن يفسر للغير كيف يقتدي آلاف آلاف المسلمين برجال يدعونهم للقتل والإغتصاب وذبح الأطفال بحجة أن هذا أمر الله؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح لغير المسلم من هو هذا الرب الذي خلق الناس وفرقهم ثم طلب منهم أن يقتلوا بعضهم بعضاً؟ ألا يغدو هذا الرب عابثاً إن كانت تلك مشيئته حقا؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح لغير المسلم أو للتأريخ حسب سبب أن يقوم آلاف من الناس بإرسال المال لقوم لا يعرفونهم من أجل أن يقتلوا آخرين لا يعرفونهم أيضاً ولا يرسلون بعض ذلك المال لآلاف آلاف الجياع من أهل الأرض؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح للناس علة هذا التخلف الخيالي لعموم المسلمين فألف ألف ألف منهم لا ينتجون شيئا وخمسة ألف ألف فنلندي أعطوهم الهاتف النقال الذي يقضون معظم وقتهم في تافه الحديث عبره، رغم أن فنلندة لم تكن يوما دولة حتى الحرب العالمية الأولى بينما يتحدث المسلمون عن دولهم التي احتلت العالم قبل ألف عام؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح للأفريقي (والذي خرج للدنيا قبل أقل من قرن) سبب أن العالم الإسلامي هو المكان الوحيد في العالم الذي ما زالت فيه حكومات مستبدة تحكم بنظرية الحق الإلهي التي رفضتها البشرية حيث يقوم بعض الأعراب بالتحكم بأموال وأنفس وحقوق وحريات آلاف الآلاف من المسلمين؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح لغير المسلم سبب أنه رغم أن الأسلام منح المرأة قبل أكثر من ألف عام إستقلالها الإقتصادي في حق الإرث فإنها وبشكل مطرد تصبح اليوم سلعة وأسيرة، فما حدث لها في العراق خلال العقد المنصرم من حكم "اللطامة" و"الصحوة" و "البشمركة" و"اللصوص" شاهد على ذلك؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح للباحث غير المسلم سبب أن رئيس الأركان الأمريكي يستطيع في اي وقت أن يزور أية دولة إسلامية (باستثناء إثنتين) دون دعوة رسمية أو ترتيب مسبق خلافا لكل أعراف العلاقات الدولية ثم يجتمع برئيس تلك الدولة سواء أكان ملكاً (مثل عبد الله سعود) أو رئيس جمهورية (مثل ميشال سليمان) أو شيخ محمية نفط (مثل حاكم قطر) بينما لا يستطيع رئيس أركان اية دولة إسلامية أن يزور واشنطون إلا بدعوة رسمية مسبقة ولا يلتقي بأعلى من جنرال أمريكي فإذا أرادوا رفع قدره جمعوه مع وزير الدفاع لنصف ساعة؟

وكيف يمكن للمسلم أن يشرح لنفسه سبب أن تتمكن السفيرة الأمريكية في بيروت مثلاً أن تجتمع مع اي سياسي، من رئيس الجمهورية حتى رئيس بلدية،  متى شاءت وأن تزور تاجر السياسة نبيه بري في مجلس النواب ثم تقف بعد الإجتماع لتشتم حزب الله والمقاومة البطلة من أمام المجلس نفسه الذي يعتد نبيه برئاسته على الطريقة اللبنانية؟ فهل سمع أحد أن سفيراً عربيا زار مجلس العموم البريطاني واجتمع برئيسه؟ وإذا فرضنا أن ذلك حدث يوما فهل سيمكن لهذا السفير أن يقف أمام مجلس العموم ويتدخل في السياسة الداخلية البريطانية ويشتم حزبا وينتقد آخر؟ أما كان سيطرد خلال أربع وعشرين ساعة ويجعل الإعلام قصته حديث أنس في أماسيّ لندن الراقصة؟

وكيف ثم كيف بعد كل هذا الذل يستطيع المسلم أن يلتفت إلى أبنائه ليقول لهم اننا المقصودون في قوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس". فما هو الخير في أمة بعض حالها كما في اعلاه؟؟

ثم كيف يمكن للمسلم أن يقول لإبنائه ان المسلمين هم المؤمنون الذين ذكرهم رب العزة في كتابه الكريم والذين يرثون الفردوس، وهو لايقدر أن يشرح لهم كيف يكون هذا وقد قال تعالى في المؤمنين: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا". فكيف جعل تعالى لحفنة من الكافرين اليهود الذين لفضتهم أوربا سبيلا وألف سبيل على المسلمين الذين ادعوا أنهم المقصودون في قوله تعالى "مؤمنين"؟ وكيف يمكن أن يسمح من أخذ على نفسه العهد ألا يجعل للدون سبيلا على من منحه من رحمته إسمه "المؤمن"؟

كيف وكيف وكيف وهناك الكثير من الأسئلة فهذا غيض من فيض..

فقد آن الأوان للمتنورين من المسلمين أن يقفوا وقفة تصارح صادقة مع أنفسهم وأن يراجعوا التأريخ ليعرفوا سبب ما نحن فيه. ذلك لأن ما يحدث اليوم والحال المتردي والذليل الذي يعيش فيه ألف ألف ألف مسلم ليس وليد الصدفة وليس بسبب عدوان النصارى واليهود علينا حسب بل إن سببه عميق عمق التأريخ الإسلامي وهو يتداول من جيل لجيل من خلال البيت والمدرسة والمسجد في تكرار لمسلمات باطلة وتمجيد للعدوان والكفر باسم الدين....

فمن ذلك نجد أن ذبح الأحياء ليس جديداً عند المسلمين فقد سبق أن زاوله قادة لهم ثم كتب التأريخ عنهم أمجاداً.... وقد تجاوز المسلمون عن سيئاتهم دون أن يدركوا ان تعالى قضى أزلا "ان من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً"... فكما احتجوا سابقاً بأن "الإسلام يجب ما قبله" وهذا ليس صحيحا لا في النقل ولا في العقل، فإنهم تستروا على جرائم المسلمين وغلفوها بغلاف الدفاع عن الدين رغم أن الدين لا يمكن أن يرضى بالعدوان لأنه تعالى قضى في كتابه الأزلي: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين".

إن الهدف من هذا المقال هو الدعوة لنظرة عقلانية في الإسلام.... ماذا حدث فعلا وكيف كتب تأريخه وكيف آل إلى ما هو عليه اليوم..

هذا ما سنحاول معاً ..

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

18 تشرين أول 2013

www.haqalani.com

====================

 

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الثانية

لقد كان الصراع في الإسلام وما زال وسيبقى صراعاً سياسياً... وكل المحاولات التي جرت لتصوير ما جرى في الإسلام على أنه خلاف عقائدي أو فكري لم تكن موفقة بل كانت في الغالب محاولات تغليف للصراع السياسي وذلك لمنع الحرج الناتج عن إكتشاف الناس أن كل ما لحق بالإسلام من ضرروخسارة كان بسبب الصراع على السلطة وليس كما صوره الفقهاء بأنه صراع عقائدي أو فكري حول تفسير ما أراده رب العزة.

ولكي نعرف جذور هذا الصراع السياسي لا بد أن نعود للبيئة التي ولد فيها الإسلام. فمكة تختلف عن أية مدينة في التأريخ في أنها كانت وما زالت محج الناس بشكل منتظم ومستمر منذ آلاف السنين. ولم تحظ مدينة في التأريخ بهذا الشرف فكل حاضرة صعدت ثم سقطت إلا مكة كانت محج الناس ومحط أنظارهم قبل الإسلام وإزدادت بعد ذلك. فرغم أن العرب كانوا يأتونها لإسباب غير تلك التي أقام إبراهيم بيته من أجلها إلا أنها كانت تزار كما تزار اليوم وكانت مركز الدين ومركز التجارة ومنبر التباري في الشعر، أي بإيجاز كانت عاصمة العرب السياسية والفكرية والإقتصادية رغم عدم وجود نظام سياسي ليمسك بكل ذلك. فقوله تعالى "أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا ءَامِنًۭا يُجْبَىٰٓ إِلَيْهِ ثَمَرَ‌ٰتُ كُلِّ شَىْءٍۢ رِّزْقًۭا مِّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" لا يعني مكة بعد إعلان الرسالة المحمدية بل منذ رفع إبراهيم القواعد وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويتضح من هذا أن من تمكن في مكة فإنما تكون له حظوة وقوة وجاه لإجتماع عوامل ذلك. وهكذا غدا شيوخ قريش حريصين على التمسك بذلك الوضع لأنه كان يمنحهم القوة والسلطة والنفوذ وفقدان موقعهم في مكة كان سيؤدي بكل ذلك.

ولد الإسلام في ظل ذلك. ولم يولد رسولنا الأكرم في بيت من البيوت المتنفذة من بطون قريش ذلك لأن بني هاشم كانوا أقل مالاً وأعز نفرا إذا ما قيسوا بمخزوم وزهرة وأمية على سبيل المثال. وقد كان شيوخ هذه البطون من قريش ينظرون لبني هاشم نظرة استصغار. لذا كان من الطبيعي، حين دعى الرسول الأكرم قريش لإتباعه، أن تثور ثائرة شيوخ تلك البطون القريشية المتعالية. لأنهم أدركوا أن نجاح الهاشمي سيؤدي لزوال نفوذهم وسطوتهم. كما إنهم إعتقدوا أن إنصراف العرب عن مكة إذا تمكن محمد (ص) منها كان سيقطع تجارتهم ويسلبهم المال وهو أداة القوة الأولى ولا شك.

وهكذا نرى أن أغلب قريش كانت معادية للدعوة المحمدية والتي اقتصرت أول الأمر على بني هاشم "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِين" ونفر من قريش وبعض العرب من غيرهم. وحين لم ينجح العداء فإنهم قرروا مقاطعتهم إقتصاديا. ويبدو أن قريش هي التي علمت الغرب معنى وفائدة الحصار الإقتصادي. فقد كان نفي الرسول وأهله الهاشميين ومن معهم  إلى شعب ابي طالب ومحاصرتهم ومنع أي شخص من التعامل معهم لثلاثة أعوام حيث قاسوا الأمرين دليلاً على العداء الذي كان شيوخ قريش من أمية ومخزوم وزهرة يكنونه لمحمد (ص) وبني هاشم. فلا يستغربن أحد من حصار بوش للعراق فقد حاصر أبو سفيان بني هاشم بالطريقة نفسها وبقسوة لا تختلف كثيراً.

هكذا نجد أن الصراع حول الإسلام كان صراعاً سياسياً حيث أشك أن اياً من شيوخ قريش كان يقاتل حقاً دفاعاً عن اللاة والعزى. بل كان يقاتل دفاعاً عن موقعه الإجتماعي والسياسي والإقتصادي أولاً وأخيراً. فهل يعقل أحد أن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (جد معاوية لأمه) حين خرج في معركة بدر ليقاتل فيصرع على يد حمزة أو علي كان يقاتل ليموت دفاعاً عن هبل؟؟ وهذا الصراع الذي كان قائماً عند ولادة الإسلام امتد في عصر حضانة الدين الناشئ واستمر بشكل أو بآخر بعد ذلك ثم انتقل إلينا تراثاً وتأريخاً نعيش في آثاره بوعي أو بدون وعي، كما سنرى.

وحين ساد الإسلام ودخل رسولنا الأكرم مكة دون قتال دخلت بقية قريش في الإسلام طوعاً أو كرهاً أو رياءً، وهم الذين اشار إليهم رسولنا الأكرم بهذا التسلسل في قوله (من دخل المسجد فهو آمن  ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن  ومن أغلق بابه فهو آمن ) . فكان منهم منافقون كما كان من أهل المدينة "وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا۟ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍۢ"....وإذا كان المنافقون من حول الرسول الأعظم في مكة والمدينة فهل يكون من العجب أن نجدهم في كل تأريخ الإسلام وفي كل زمان ومكان؟

ولم يختف الصراع السياسي داخل قريش حتى في عهد الرسول الأكرم (ص)  وإن كان ضعف على السطح كما يبدو إلا أنه ظل قائماً. وقد برز في مرض الرسول الأخير فحين عاده شيوخ قريش في بيته يوم الخميس وطلب (ص) دواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أدرك عدد منهم أنه ربما كان سيوصي ولم يكونوا راغبين في ذلك لأن اية وصية من النبي الأكرم كانت ستحسم موضوع الخلافة بعده. فكثر اللغط في المجلس وقال أحدهم إن الرجل ليهجر وقال آخر لسنا بحاجة لوصية فعندنا كتاب الله سيغنينا عن ذلك....فغضب (ص) وقال اخرجوا لا ينبغي عند نبي تنازع. فخرجوا ولم يعودوا. وقبض (ص) يوم الإثنين ولم يكن أحد من الصحابة الذين طردوا من بيته قد رأه قبل صعوده للسماء. وقد وصف حبر الأمة عبد الله بن عباس ذلك الحدث الجلل بأنه "رزيئة الخميس". فهل هناك قارئ للتأريخ يقدر أن يصف ما حدث ذلك الخميس بغير الحدث السياسي فضلاً عن أنه رد للأمر الإلهي "وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُوا۟ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ".

ثم ما لبث الصراع السياسي أن تفجر بعد قبضه (ص). فقد عقد أخطر مؤتمر سياسي في تأريخ الإسلام كله. لكنه رغم خطورته واثره على تأريخ الإسلام منذ ذلك اليوم حتى الآن فإن ما وصلنا عنه لا يتعدي نتفاً وحكايات متفرقة. فلم ينتظر شيوخ المسلمين دفن رسولهم ونذيرهم، فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في أمر الخلافة. وحين سمع شيوخ قريش سارعوا لحضور الإجتماع لقطع الطريق على الأنصار من حسم موضوع الخلافة، كل ذلك بينما كان بنو هاشم مشغولين بدفن رسولهم الأكرم (ص). ويبدو لي أن مؤتمر سقيفة بني ساعدة السياسي وما جرى فيه كان من الخطورة مما دفع القيادة السياسية في العقود الذي تلته أن تحجب عنا ما أمكن حجبه ليظل المؤتمر سراً من أكبر أسرار الإسلام. إلا أن نتفاً مما وصلنا عما دار في الإجتماع السياسي مما يدعمه ما حدث بعد ذلك يكاد يلخص بما يلي.

طلب الحاضرون من الأنصار أن تكون الخلافة في الذين نصروا فرد الحاضرون من قريش أنهم أولى بها. وسمع المسلمون في المدينة الأذان ببيعة ابي بكر بينما كان الرسول الأكرم يدفن. وخرج شيخ الأنصار سعد بن عبادة من الإجتماع غاضباً وترك المدينة ولم يعد إليها حيث قتل بعدها غيلة في وادي حوران في ظروف غامضة. ورغم أننا لا نريد الخوض في التأريخ إلا أنه لا بد من التذكير بأن الرسول الأكرم (ص) كان يعقد راية الأنصار لسعد بن عبادة في غزواته، وسواء أرضي القارئ عن سلوك سعد أم لم يرض فإن الحقيقة التي يجب الإقرار بها هي أن شيخ الأنصار ومعه العديد من أتباعه لم يرضوا على القرار السياسي الذي تمت به أول بيعة بعد الرسول (ص). ولنا في مقتل سعد بن عبادة وقفة أخرى مع تأريخ الإسلام السياسي. فقد كتب عن مقتل عثمان بن عفان وقامت الحروب بحجة المطالبة بدمه. لكن شيئاً لم يكتب عن مقتل شيخ الأنصار الذي قاد قومه في كل حروب الدفاع عن الإسلام وثبت في أحد وحنين. أليس من حق أهله بل أليس من حق الأنصار أن يعرفوا لم قتل شيخهم ومن قتله ومن أنتفع من موته؟ أليس من حق المسلمين أن يعرفوا سر إغتيال شيخ الذين "ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوٓا۟" والذين لم يرتكبوا إثما بحق محمد (ص) حتى يحتاجوا لإختلاق حديث (الإسلام يجب ما قبله)؟ أم أنها السياسة التي وجدت أن من الأفضل طي هذه الصفحة؟

ولا بد من وقفة عند مؤتمر سقيفة بني ساعدة لفهم بعده السياسي وتأثيره في تأريخ الإسلام حتى اليوم. وأول ما يجب تذكره هو أن سرية أسامة بن زيد بن حارثة قد تحركت من المدينة قبل أن يقبض الرسول (ص). وقد عقد (ص) الراية لأسامة بن زيد وأمره بالتحرك لقتال الروم في شمال جزيرة العرب وجعل كل شيوخ المهاجرين والأنصار في جيش اسامة حتى تململ البعض، فقال (ص) ما فعلته عن أمري! بل إنه (ص)  ذهب أبعد من ذلك فقال قولة لم يسبق له أن قال مثلها حين صرح قائلاً (لعن الله من تخلف عن جيش اسامة). فإذا كان الأمر كذلك فإن الصحابة من المهاجرين والإنصار كانوا خارج المدينة حين قبض (ص) فكيف عادوا بهذه السرعة وعقدوا مؤتمرهم السياسي في السقيفة؟ ولعمري لا أدري لم تلك العجلة في إختيار خليفة حتى قبل دفن الرسول؟ فهل يعقل أن أحداً كان يخشى على الدين؟ فإذا كان هناك من يخشى على الإسلام والمسلمين فلا بد أن ذلك لضعف في إيمانه. فالذي أرسل محمداً (ص) ثم قبضه كفيل بحماية دينه!

ثم لا بد من التساؤل: من حضر المؤتمر وماذا دار فيه؟ ذلك لأن معرفة الحاضرين مؤشر مهم على صدق الإدعاء بأن البيعة كانت بيعة دينية سليمة شارك فيها أكبر عدد من الصحابة. كما ان معرفة ما دار من جدل يغنينا عن التكهن عن الأسس التي بني عليها إختيار الخليفة، وهل كان هناك إعتبار ديني من سبق وتقوى وجهاد أم ان الجدل كان فعلاً كما رشح قد دار حول ما إذا كانت قريش أولى بالخلافة لأنها شجرة النبوة؟

إلا أننا ما دمنا لم نحصل على تفصيل لما دار في المؤتمر فإننا ليس لدينا سوى الإستنتاج عما جرى بناءً على سلوك البعض ونتائج المؤتمر. والمؤشر السياسي الأكبر الذي خرج عن المؤتمر هو ما صرح به القريشي للهاشمي حين قال (كرهت قريش أن تجتمع فيكم الخلافة والنبوة) .

ولا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يصف هذا التصريح بأية صفة غير الصفة السياسية. ذلك لأن كره قريش كما وصفه المتحدث لا علاقة له بالدين وما إذا كان في بني هاشم من يصلح للخلافة لسبقه وجهاده وتقواه. أي بمعنى آخر إن شيوخ بطون قريش من غير بني هاشم قرروا ألا يكون خليفة النبي الأكرم (ص) من بني هاشم حتى إذا كان ذلك الهاشمي أهلاً للخلافة!

وهكذا كان فأول خليفة كان من تيم وثاني خليفة كان من عدي وثالث خليفة كان من أمية قبل أن تنتهي الخلافة في بني هاشم لأنه لم يعد بالإمكان التقدم على الهاشمي فإذا كانت قريش أولى بالخلافة لأنها شجرة النبوة فالهاشمي ثمرة تلك الشجرة ولا شك.

كما أن مؤتمر سقيفة بين ساعدة ثبت مبدءً خطيراً في تأريخ الإسلام الا وهو منع أي أنصاري من الوصول للخلافة حيث إن تثبيت أن قريش أولى بها لأنها شجرة النبوة اصبح سنة لم تنقض. وقد تم نتيجة ذلك عزل الأنصار عن السلطة بشكل دائم، بل إن الأمر ذهب أبعد من ذلك حيث إن دور الأنصار في الإسلام حجم بشكل منتظم فساد أبناء الطلقاء من قريش في الوقت الذي غاب المجاهدون الذين "ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوٓا۟" عن المسرح..... بل إن  تأريخ الإسلام الذي كتب في العقود والقرون التي تلت أنسانا حتى اسماء الأنصار الأوائل.... فكم مسلم اليوم لم يسمع بابي سفيان الأموي القريشي والذي لم يسلم إلا بعد فتح مكة؟ لكن كم مسلم اليوم يعرف شيئا ما أو حتى إسم البراء بن معرور الأنصاري وهو من أوائل المسلمين الذين "ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوٓا۟" بايع في العقبة الأولى وكان أول من وجه وجهه للبيت الحرام حتى قبل أن يصرح (ص) "فول وجهك شطر المسجد الحرام"؟ ومن من المسلمين اليوم يعرف شيئاً عن أبي الهيثم مالك بن التيهان الأشهلي أول الستة الأنصارالذين بايعوا الرسول وشهد العقبتين وكان نقيب بني عبد الأشهل مع أسيد بن حضير؟ بل من من المسلمين اليوم قادر أن يحصي اسماء نقباء المدينة وكانوا من أشرف الصحابة الذين آخا رسول الرحمة (ص)  بينهم وبين عدد مشابه من المهاجرين وقال في حقهم عز من قائل " وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَـٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةًۭ مِّمَّآ أُوتُوا۟ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌۭ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ".

إن قرار قريش للإستئثار بالسلطة ظلم غير القريشيين وغمط حقهم فكتب تأريخنا على ذلك الشكل المزيف والمعيب....فإذا قال قائل إن التأريخ ليس مزيفاً فلا بد أن يكون السؤال أخطر وأهم وهو لماذا إذن أبعد الأنصار عن الخلافة والولاية؟ من قرر ذلك وما حجته؟ فهل كان لخالد بن الوليد، والذي قتل المؤمنين في أحد، مهما صلح إسلامه،  أن يتقدم على أي أنصاري قاتل في أحد لو لم يكن خالد قريشياً فتشفع له وترفعه بطون قريش من مخزوم وأمية وزهرة وتيم؟

ثم تدخلت السياسة في الصلاة في شواهد عدة نختار واحداً منها. ذلك أن أغلب المسلمين يذكرون في صلاتهم العشرة البررة المبشرة بالجنة. فلماذا يا ترى كلهم من قريش؟ أيعقل أن رسول الله لم يبشر أنصارياً بالجنة حتى يذكر مع القريشيين؟ ثم أين عمار بن ياسر وهو أول مسلم بشره الرسول الأكرم(ص) بالجنة؟ بل إن عماراً أسلم قبل ثمانية من العشرة المبشرة بالجنة. ألا يقتضي السبق في الإسلام والسبق بالتبشير أن يكون أول المذكورين في الصلاة ذلك لأن السبق يحكم كل شيء "وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلْأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـٰنٍۢ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ". فالأنصار الذين بايعوا الرسول الأكرم (ص) في بيعة العقبة الأولى لهم السبق على أي قريشي اسلم بعدهم مما علا شأن قومه ومهما كانت له المكانة الدنيوية في مكة (رب عبد في طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه). فإذا اعترض معترض على هذا فلياتنا بدليل من القرآن يدعم طعنه لا أن يدفع بما قاله أحد الفقهاء بفضل هذا الصحابي أو ذاك.. كما لا يحق للمعترض أن يحتج بحديث موضوع مفاده (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام)... فلو كان الأمر كذلك لما اختار تعالى محمداً (ص) نذيراً لأم القرى ومن حولها، ولفعل، وحاشاه أن يفعل، كما طلبوا "وقالوا لولا نزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم"!

كما إن بيعة مؤتمر السقيفة أسست لسوابق خطيرة في الإسلام. فإذا أردنا أن نقفز فوق عقود من التأريخ فإن مما أصبح خلافاً يقال عنه أنه عقائدي (وإن كان عندي سياسياً) بين السنة والشيعة هو ما أخذه فقهاء السنة على الشيعة أنهم إدعوا أن الإمامة أمر إلهي وهي في نسل فاطمة. فقال فقهاء السنة أن الإمامة إختيار من المسلمين بشورى وبيعة... وليس عندي مشكلة في هذا الرأي العقلاني إذا تحقق فعلاً واختار فيه المسلمون أولياء أمرهم بالشورى والبيعة السليمة.... لكن متى تحقق هذا في تأريخ الإسلام؟؟؟

فقد قال عمر بن الخطاب عن بيعة ابي بكر (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها) على ما أخرجه البخاري! ولا أعتقد أن عمر بن الخطاب كان يطعن بأهلية ابي بكر في الخلافة لكنه كان يشير الى خطورة ما حدث بالطريقة التي حدث فيها...فبيعة أبي بكر كانت عملاً سياساً!

وحين أدركت الوفاة أبا بكر فإنه أوصى بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، فكانت أول سنة للوصية رغم أن أغلب فقهاء المسلمين يجمعون على أن النبي الأكرم (ص) لم يوص لأنه لم تكن حاجة للوصية ما دام الصحابة موجودين والقرآن بين أيديهم. فلماذا أوصى ابو بكر؟ أكان أحرص على الإسلام من سيده الأكرم (ص)؟ ألم تكم وصية أبي بكر قراراً سياسياً ليقطع فيه الطريق على بني هاشم؟

وحين أوشك عمر بن الخطاب على الموت أوصى بتشكيل لجنة من ستة، كلهم من قريش، ما فيهم من مهاجر غير قريشي وإن كان ذلك المهاجر قد سبق عمر والقريشيين في إسلامه وما فيهم أنصاري واحد مهما عظم إيمانه. وأوصى عمر أن يكون الخليفة من بين الستة فإذا انقسمت اللجنة نصفين فالخليفة من النصف الذي فيه عبد الرحمن بن عوف. وهذه الإجراء الذي وضعه عمر سياسي بالكامل. ذلك لأن أية لجنة لا بد أن تكون فردية إذا أريد أن يكون فيها أغلبية وأقلية. كما أن إعطاء الغلبة لنصف عبد الرحمن بن عوف كان قراراً سياسياً محسوباً لإعطائه صوتين وتهميش صوت علي في اللجنة. ثم لماذا يراد منا أن نقبل أن الخمسة من أعضاء اللجنة الذين اسلموا بعد عمار بن ياسر كانوا أحرص على الإسلام من عمار؟ أليس إختيارهم وتركيبة اللجنة كان قراراً سياسيا ليس فقط لإبقاء الخلافة في قريش وإنما حتى لتأمين عدم وصولها لبني هاشم؟ وحين انقسمت اللجنة على  أسس سياسية كانت البيعة لبني أمية في شخص عثمان بن عفان. ومن أمتلك المقدرة على القراءة السياسية السليمة  فما عليه سوى أن يراجع التأريخ ليفهم كيف تم إستبعاد علي ولماذا رفض البيعة على سنة الشيخين ولماذا رفض بن عوف حق علي في الإجتهاد كي يخلص الباحث من كل ذلك بأن تلك السابقة السياسية الخطيرة أرست قاعدة أخرى من القواعد السياسية في تأريخ الإسلام والتي تنسحب على حياتنا حتى اليوم!

وما أن قتل عثمان بن عفان على يد أهل مصر (وليس على يد بني هاشم) حتى دخل الإسلام في أكبر فتنة له لم تنته إلا بعد وفاة علي بإستقرار الدولة لبني أمية لثمانين عاماً؟

فأين تمت البيعة بعد الشورى التي تحدث ويتحدث عنها فقهاء المسلمين؟ أكانت في بيعة ابي بكر أم في بيعة عمر أم في بيعة عثمان أم في بيعة علي أم في الخلافة الوراثية التي أرساها بنو أمية فصارت سنة حتى يومنا هذا؟ وكيف يؤخذ على الشيعة إيمانهم أن الخلافة في الأمة من نسل فاطمة بينما فعل السنة ذلك تماماً حين جعلوا الخلافة وراثية في بني أمية وبني العباس وبني عثمان؟؟ أليست هذه هي السياسة بعينها فليس في الصراع بين السنة والشيعة حول مفهوم الخلافة والإمامة أي خلاف عقائدي أو فكري كما يزعم فقهاء الطرفين في كتب التأريخ، إنما هو صراع قبلي سياسي كان قائماً في قريش قبل الإسلام وانتقل للإسلام وما زال سائداً بين المسلمين حتى اليوم؟

لقد كان الصراع في الإسلام وما زال بين موالين لبيت علي وموالين لبيت عائشة... أدري أن هذه المقولة ستثير الكثيرين حتى عدداً من أصدقائي لكن الوقت قد حان لكي نلقي نظرة موضوعية على تأريخنا.. هذا ما سأحاول أن أكتب لاحقاً... قبل أن أعرض كيف أصبحت الشريعة سياسة والفتح الإسلامي سياسة وإن حاولوا أن يضفوا عليها طابعاً دينياً...

وأرجو مخلصاً من الصديق الذي يغضبه ما أقول أن يقف ويسأل نفسه بأمانة ما في الحدث أو الحديث أو المقاربة التي وردت في المقال ما هو مختلق أو غير متطابق بموضوعية مع البحث التأريخي. فإن وجد ذلك فليرده لي. وإن لم يجد فليمسك غضبه حتى أنتهي مما أريد قوله وعندها نتحاور....

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

31 تشرين أول 2013

www.haqalani.com

=================

 

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الثالثة

كتب لي صديقي العزيز بعد قراءته للحلقة الثانية من مقالي ما يلي:

"....لكن أن تكون الإمامة والخلافة شأناً سياسياً خير من أن تكون شأناً دينياً".

وهذا هو عين ما أبتغيه من مقالي هذا. إن ما أريد تبيانه هو أن تأريخ الإسلام تأريخ سياسي وليس ديني، وان الخلافة كانت سياسية وليست دينية وان الشريعة وضعها الفقهاء والساسة لخدمة الدولة وليس بتكليف إلهي. ولا أقصد بأي من هذا أن ذلك كان كله خطأً إنما أقصد منه أنه لم يكن دينياً ويجب علينا أن نكف عن غسل عقول الناس كما فعلنا خلال ثلاثة عشر قرناً بأن كل ما جرى كان بتكليف إلهي لخير أمة أخرجت للناس وهو من جوهر الدين. وهذا الإقرار سيسمح لنا بالتعامل بعقلانية وموضوعية مع تأريخنا دون الإحتماء بالغطاء الديني معللين أن كل حدث، مهما عظم، كان بسبب تكليف إلهي للمسلمين لكي يصلحوا هذه الأرض ومن عليها.

وهذا بدوره إذا حدث كفيل بأن يوقف الخراب والقتل والتدمير الذي يقوم به أغبياء الناس من المسلمين اليوم والذين غسلت عقولهم بالتأريخ الذي يدرسون في المدارس ويسمعونه في المساجد والذي يخبرهم أن في قتل الناس مجداً وإستباحة أموالهم وأعراضهم حقاً وهم مع ذلك يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً. أولئك البسطاء السذج الذين يحركهم "شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا" ويتغذى حراكهم على الغرائز الحيوانية من أكل وشرب ونكاح في جنة موعودة وموهومة!

وقد لا نوفق في تحقيق ما نسعى له لكننا على الأقل قد نوفق في إصلاح بعض الخلل الجسيم... أما إذا لم نحاول حتى هذا فإننا سوف نبقى منزوعي الكرامة وفي أسفل قائمة البشر ويبقى أعداؤنا يسوموننا سوء المعاملة ويبقى الجهلة من حكامنا يتحكمون برقابنا ما دام هناك منافقون يقفون على  المنابر عند الصلاة وهم يدعون ويمجدون، باسم الدين، لأولياء الأمر والذين ليس فقط لا علاقة لهم بالدين ولكنهم من كثر فسادهم لم يعد حتى إبليس قادراً أن يجد لهم الأعذار!

وأبتدأ من حيث انتهيت آخر مرة..

فقد كتبت: لقد كان الصراع في الإسلام وما زال بين موالين لبيت علي وموالين لبيت عائشة.

ولابد لي الآن من توضيح ما أعنيه بهذه العبارة وكيف أثرت هذه الحقيقة على تأريخنا وما وصلنا اليه اليوم، لكي نحاول أن نتلمس الطريق، إن وجد، للخروج من هذه الأزمة المصيرية.

فأقول إن عبارتي أعلاه لا تعني أن أياً من علي أو عائشة أسس لمشروع سياسي ثم أتبعه الآخرون. فذلك ما كان يمكن له أن يحدث. ولا تعني عبارتي أعلاه أنه كان بين علي وعائشة خلاف عقائدي في تفسير الدين لإستحالة قيام موازنة بين الإثنين في هذا الباب.. فعائشة، حسب شرعهم، لا يمكن لها أن تستفتى في الدين ولا يحق لها أن تقضي بين الناس ولا يمكن لرجل أن يأتم بها بينما كل ذلك مباح لعلي....

لكن الحقيقة المسلم بها أنه لم يكن بين الإثنين ود كبير. وليس هذا إكتشاف جديد جئت به لكنه ما أجمع عليه الرواة ممن عاصروا تلك الفترة وإن كان عدد منهم تنبهوا إلى أنه مادام أحدهم إبن عم الرسول ووزيره وصهره والآخر زوجه، فقد حاولوا من باب الحرص على الأمة ألا يخوضوا في هذا الموضوع ولا يعطوه حجماً كبيراً في النقل والرواية. لكن هذا لم يمنع أن وصلتنا حقيقة إنعدام الود بين الإثنين.

وهكذا وجد القريشيون الطامعون بالسلطة من أعداء بني هاشم، يقودهم بنو أمية، والذين لم يتمكنوا من الطعن بمحمد (ص)، بعد أن ثبته مولاه بالقول الصادق وخمسة آلاف من الملائكة مسومين، أن خيارهم هو أن يتصدوا للرمز الثاني لبني هاشم المتمثل في علي. لكن فضل علي في الإسلام لا يمكن لأعتى أعداء الإسلام أن يتجاهله أو يغطيه.. فما العمل؟

كان أول ما ابتدؤا به هو الطعن على والده أبي طالب فألفوا الأحاديث وكتبوا القصص التي تتحدث عن شركه وخلوده في النار رغم توسل الرسول (ص) له بالدخول في الإسلام. وسودوا في سبيل ذلك الصفحات رغم أنهم لم يكتبوا عن والد أبي بكر وعدم إيمانه، حتى بعد خلافة إبنه، أكثر من بضع سطور. وقد غاب عن هؤلاء، وبعضهم معذور لأنه أعجمي المولد مما يجعل من العسير عليه فهم الشخصية العربية حتى بعد إسلامه، أن العرب تعد الشعر لسان حال المرء ولم يكن عند العرب قبل القرآن سوى الشعر وهو ديوان العرب ومرآة حياتهم وكان وما زال مصدر لغتهم وكاشف شخصيتهم. وأبو طالب كتب شعراً، وكل شعره كان في مدح النبي وقد صدرت عدة مجموعات لذلك الشعر وكانت لي محاولة قبل عشرين عامات حيث جمعت شعره الوارد في كتب أهل السنة (وليس كتب شيعة ابنه) ونشرته. فكيف يمكن أن يحكم على كل شاعر عربي من خلال شعره ويستثنى من ذلك أبو طالب؟ وهل هناك مشرك واحد قال شعراً في مدح النبي وظل مشركاً؟ فحسان بن ثابت وكعب بن زهير ما مدحوا نبينا الأكرم (ص) إلا بعد إسلامهم رغم شتمهم له قبل ذلك.

ويقول إبن أبي الحديد المعتزلي ان لامية أبي طالب لا تقل شهرة عن لامية أمرؤ القيس.. ولو لم يقل أبوطالب شيئا سوى قوله في الرسول الأكرم (ص):

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه           ثمال اليتامي عصمة للأرامل     

لكان ذلك كافياً لدخوله الجنة....ولم ينقل لنا التأريخ أن أبا سفيان قال كلمة طيبة واحدة في حق محمد (ص) حتى بعد إعلان إسلامه والذي لم يقع إلا بعد فتح مكة وفرض الحقيقة السياسية بانتصار محمد (ص) على مشركي قريش.

ثم يتأكد لنا الواقع السياسي للصراع بين بطون قريش وبني هاشم حين سارع كتاب التأريخ ومؤلفو الحديث إلى تسويد الصفحات عن كيف أسلم أبو سفيان (شيخ أمية) بعد فتح مكة وكيف صلح إسلامه وكل ذلك بعد أن استحوذ بنو أمية على الخلافة... لأنهم، أي رواة الحديث وكتاب التأريخ، يعتقدون أنهم وحدهم من له الحق في تقرير من من الناس قد صلح إسلامه، وهم ولا شك لم يقرؤوا سورة المنافقين ولا قوله تعالى "فلَا تُزَكُّوٓا۟ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ" ولا  قوله تعالى "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ" وغيره كثير..

لكن الأخطر من ذلك أنهم فاتهم في غمرة هذا التأليف والإختلاق أن يقرؤا قوله تعالى: " الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا" وأبو سفيان لم يهاجر!

ثم وجد أعداء بنو هاشم في العداء بين علي وعائشة باباً ثانياً للإنقضاض على علي والنيل منه أولاً ومن النبي الأكرم (ص) ثانياً كل ذلك من باب سياسي لأن السياسة كانت عندهم فوق الدين فهم الذين فقدوا السيادة التي كانت لهم في الجاهلية بانتصار الإسلام فكان لا بد من اللعب السياسي لإستعادتها من بني محمد (ص). فتحلقوا حول عائشة في حياتها وأختلقوا أحاديث ونسبوها لها للنيل من علي والإنتقاص من نبينا الأكرم (ص) كما سأبين في موضعه. ولم يكن هؤلاء محبين حقاً لعائشة بل كانوا كارهين لعلي، ومن كره علي فقد كره النبي (ص) لأن من كره عمل النبي فقد كرهه ولم يرفع النبي مقام رجل أكثر مما رفع مقام علي..وهكذا ألتف بنو أمية حول عائشة، فليس كل من أمسك بزمام الجمل كان محباً لها، فقد روي عنها أنها أفتت بقتل عثمان الأموي، لكن كل من أمسك بزمام الجمل كان كارهاً لعلي ولا شك...

هكذا نشأت السياسة في الإسلام... بدأت بمعارضة بطون قريش لبني هاشم قبل انتصار الإسلام وانتقلت بعد انتصاره لمحاربة بني هاشم في شخص علي ومن التف حوله ثم امتدت لتذبح وتقتل بنيه ومن والاهم وانتهت بلعن علي ثمانين عاماً على منابر المساجد في أرض المسلمين.... ولم يكن لأي من هذه السياسة علاقة بالدين! والرسالة لا تنفصل عن المرسل بها. فمن حارب المرسل بها فقد حارب الرسالة وكل غطاء على هذا هو أوهى من بيت العنكبوت!

وقد تفجر الصراع السياسي حين خرج معاوية على علي. ولم يكن خروج معاوية سوى طلباً للسلطة. وتثير شخصية معاوية أكثر من قضية في تأريخ الإسلام السياسي. وقد حاول فقهاء المسلمين من أهل السنة في السابق تفادي الخوض فيها وذلك رغبة منهم في حماية الأمة ليقينهم أنه ليس هناك مجال كبير للدفاع عنه في خروجه على علي فليس هناك إمكانية لعقد موازنة بين الإثنين، وهم في ذلك معذورون لأن رغبتهم في حماية الأمة لها الأسبقية على الأمانة التأريخية كما أنهم أولا وأخيراً ليسوا معنيين بدراسة التأريخ... أما اليوم فقد طلعت علينا طائفة من أنصاف المتعلمين من فقهاء الردة الوهابية الذين جعلوا هدفهم رفع شأن معاوية في محاولة بائسة من جعل سلوكه السياسي يبدو وكأنه من صلب الدين عن طريق إيجاد الأعذار في أحاديث مختلقة تجيز ما لم يجزه الله ورسوله... لكنهم جميعاً لم يقفوا أو ربما تحاشوا عن عمد الوقوف عند قوله تعالى: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا". وليس فوق قول الله قول وليس بعد حكمه حكم... وقد قتل معاوية بن أبي سفيان عمار بن ياسر وهو أول مؤمن بشره الرسول الأكرم (ص) بالجنة حين كان معاوية وأبوه وأمه يسجدون لهبل، وقال (ص)  لعمار (تقتلك الفئة الباغية) ولم يجرؤ أي من مريدي بني أمية على الإدعاء بأن رسول الله (ص) بشر معاوية أو أبويه بالجنة... وعمار لم يكن من بني هاشم ولم يكن حتى من قريش وكل جريرته أنه وقف مع علي لأنه كان من أدرى الناس بمقامه عند الرسول الأكرم (ص).

فإذا قال قائل ان الإسلام يجب ما قبله فالرد على ذلك من بابين أولهما أن قتل عمار كان بعد الإسلام وليس قبله، وثانيهما وهو الأهم هو أن قضاء الله الأزلي بتحريم قتل نفس المؤمن لا يجبه شيء ذلك لأن قتل اسمه، والمؤمن اسمه، حرام أزلاً حرام أبداً.

ولا بد قبل الإنتقال من فترة معاوية أن نذكر مؤشرا عن الطبيعة السياسية لخروجه على ولي الأمر. فقد دارت بين علي ومعاوية مراسلات ليس هذا مجال عرضها لكنها موجودة في كتب التأريخ وهي تكشف الكثير عن الطبيعة السياسية للصراع لمن أراد أن يتيقن أو يستزيد. ونقتبس منها بعض جمل جاءت في إحدى ردود علي عليه:

"فأما طلبك إلي الشام فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس. وأما قولك أن الحرب أكلت العرب إلا حشاشات أنفس بقيت، ألا ومن أكله الحق فإلى الجنة ومن أكله الباطل فإلى النار. وأما إستواؤنا في الحرب والرجال فلست بأمضى على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك انا بنو عبد مناف، فكذلك نحن... ولكن ليست أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كابي طالب ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق ولا المحق كالمدغل. ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً هوى في نار جهنم".

وليقرأ من يقدر أن يقرأ ما في هذه الجمل من إجمال لواقع الصراع السياسي الذي بدأ سياسياً بين هاشم وأمية قبل الإسلام واستمر أكثر من  ألف عام وبرز اليوم صراعاً سياسياً بين الوهابية وموالي أهل البيت!

ولا بد هنا من التوقف قليلاً لفهم سبب موقف معاوية السياسي من علي وأهله. ذلك ان معاوية لم يعلن إسلامه إلا بعد فتح مكة وله من العمر يومها 23 سنة... وهذا يعني أنه قضى قرابة عشرين عاماً في بيت شرك وهو يسمع أمه (هند بنت عتبة بن شيبة) وأباه (أبا سفيان بن حرب) يشتمون محمد (ص) ويعيبون عليه كل شيء بل كانوا لا يسمونه إلا أبن أبي كبشة.... ثم شهد أمه تبكي أباها وأخاها بعد معركة بدر وتضم في لعنها حمزة ابن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب.... ثم شهد فرح أمه بقتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب في معركة أحد وسمع أباه يتغنى بقول شاعرهم شامتاً بقتل حمزة:

قد قتلنا القرم من ساداتهم            فعدلناه ببدر فاعتدل

ولا يمكن لأي إنسان ينشأ في بيت كهذا ألا يتأثر بهذا الحقد على محمد (ص) وعلي وأهل بيتهم..وهكذا نجد أن سبب الموقف السياسي لكل من معاوية مع علي ويزيد مع الحسين هو ذلك الحقد والكره لبيت النبوة الممتد من محمد(ص) لوزيره علي ومن جاء بعدهم من ذرية الإثنين.

وبعد أن ولي يزيد بن معاوية وقعت أول سابقة سياسية كارثية في الإسلام ذلك أن وصية أبي بكر لعمر بالخلافة نقلت من قبل بني أمية في وصية معاوية ليزيد ثم أصبحت سنة الإسلام حتى يومنا هذا. فأين الدين من هذا وأين الشورى التي يزعمون وأين بيعة الأمة التي عنها يتحدثون؟ وهل عاد في عنق المسلم بيعة لولي أمر ليس له دور في تعيينه أو خلعه؟ أليست هذه هي عين السياسة التي جعلت من الدين أداة فأصبح التوريث قاعدة وقام فقهاء المسلمين في دعوة الناس لإتباع ولي الأمر الذي ليس للمسلم أي دور في توليته.. ثم أفتوا في أن الخروج على ولي الأمر من الكبائر..فأفسدوا كما أفسد أسيادهم من الحكام!

وأفتتح يزيد بن معاوية حكمه بواحدة من أكبر مجازر التأريخ التي وقعت في حق عائلة، حين قتل الحسن وأهل بيته وعدد من مريديه في كربلاء سنة إحدى وستين للهجرة وهو الحدث الذي أصبح رمز الشهادة وبني الفقه الشيعي الجعفري عليه...ولست بصدد عقد موازنة بين الحسين ويزيد حيث إني أعتقد أن محاولة كهذه ستكون انتقاصاً من الإسلام ورسالته، واستخفافاً بالرسول الأكرم (ص) وما فعله وما قاله.

لكن المهم في هذا الحدث بعده السياسي وأثره على تأريخ المسلمين. فقد قرر يزيد ووافقه مسلمون يومها، كما يبدو من خلال خذلان أهل العراق للحسين وحشد أهل الشام لقتله، على جواز ذبح المسلم للمسلم إذا اختلف معه.... كما وافقوا على جواز قتل الأطفال والنساء من المسلمين ممن ليسوا طرفاً في الصراع السياسي على السلطة... فهل نعجب اليوم إذا وجدنا بعض المسلمين يفتون بجواز قتل الناس واغتصاب نسائهم وسلب أموالهم ماداموا يمجدون ما فعله يزيد بحجة أنه ولي الأمر وله بيعة في رقاب الناس دون أن يقولوا لنا من بايعه وكيف تمت تلك البيعة؟... وهل نعجب إذا قام غوغاء المسلمين اليوم بهذه الجرائم من قتل وذبح واغتصاب وسرقة بحجة أنهم ينصرون دين الله؟ ثم إن قتل يزيد لآخر سبط لنبي المسلمين وأهله يدعوا للسؤال: ترى إذا كان هذا ما فعله المسلمون بأهل نبيهم من أجل الإستحواذ على السلطة والإنفراد بها فماذا يا ترى فعلوا بالغرباء من الشعوب التي استباحوها من غير العرب؟؟

هذا ما سنحاول أن نعرضه في الحلقة القادمة..

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

9  تشرين الثاني 2013

www.haqalani.com

====================

 

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الرابعة

إنتهيت في الحلقة السابقة بالسؤال عما فعله المسلمون بالمسلمين وبغير العرب الذين استباحوا أراضيهم. وأنوي اليوم أن أخوض في هذا الموضوع ليس رغبة مني في تسفيه ما مجده المسلمون لقرون ولكن من أجل فهم سبب ما يحدث اليوم لإرتباط ثقافة اليوم بذلك التأريخ أملاً في الاعتراف بذلك من أجل القبول بمراجعة ناقدة لتأريخنا للوصول إلى حالة عقلانية تمكننا من فهم رسالتنا للبشرية إن بقيت لنا رسالة. وأعرف أني سأغيض فيه حتى عدداً من أصدقائي لكني صادق مع نفسي وصادق في التعبير عن قناعاتي، وعسى أن يوقفني ويصحح من يجد في ما أقوله شططاً.

فما أن رحل نبي الرحمة (ص) حتى استيقظت الجاهلية، وليس ذلك بعجيب حيث إن الأخلاق والأعراف لا تتغير بين ليلة وضحاها. فقد لا يكون من السهل على كل إمرء أن ينزع لباس الجاهلية لمجرد قوله الشهادتين.

وأول خلق جاهلي بعث كان تمجيد القتل كما قال الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم التغلبي:

بشُبَّانٍ   يَرَوْنَ   القَتْلَ   مَجْـدَاً          وَشِيبٍ  فِي  الحُرُوبِ  مُجَرَّبِينَا

ولكن بفارق، فحين كانوا في الجاهلية يغيرون على بعضهم البعض ونهاهم الإسلام عن ذلك فإنهم قرروا أن يغيروا على غيرهم خارج أقوامهم وخارج أراضيهم. فجيشوا الجيوش وأرسلوها خارج أرض العرب، فقتلوا الناس بحجة الكفر وسلبوا أموالهم وسموها غنائم واغتصبوا نساءهم وأدعوا أنهن ما ملكت ايمانهم. ولكي يعطوا هذا القتل والسلب والإغتصاب شرعية إدعوا أن ذلك كان بأمر إلهي من أجل نشر الإسلام، فهل كان حقاً كذلك؟

وأول ما أبتدئ به في الإجابة على هذا السؤال هي قناعتي بأن الإسلام جاء للعرب أو للناطقين بالعربية، وهذا خلاف ما يعتقد به أغلب المسلمين وأظن أني في قلة من المسلمين الذين يعتقدون هذا. وقد كتبت في هذا مقالاً عنوانه "لمن بُعِث الرسول النبي الأمي" بينت فيه من آيات القرآن وحده كيف أن الرسالة كانت للعرب، ولا أروم أن أعيده هنا. لكني أستعير منه ثلاثة شواهد قرآنية لإثبات هذه القناعة، فمن أراد المزيد أمكنه قراءة ذلك المقال في موضعه.[i]

فقد قال عز من قائل في تأكيده أنه ما من قوم إلا ولهم رسول "وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ"  ثم خاطب رسولنا الأكرم (ص) "وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ " فبين أن نبينا جاء لينذر العرب في أم القرى ومن حولها. وحتى لا يضيع الناس في إجتهاد من يتبع من وعلى من تؤخذ الحجة فإنه تعالى الزم نفسه في قوله "وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ" بأن كل قوم لهم رسول بلسانهم حتى يتحقق عدله تعالى ويكون له في عدله هذا أن يسألهم إذا شاء عن طاعته أو سبب معصيته بعد أن كان قد أنذرهم وحذرهم بلسانهم.

وحين كلف تعالى الرسول النبي المكي بدعوة العرب فإنه دله على طريق الدعوة بقوله "ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ ". فلم يكلفه الدعوة سوى بهذا السبيل. ثم ذكره بحرية الإنسان في أن يختار في قوله "لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ ". وذكره تعالى بقوله " لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَىٰهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ ۗ " وعقب ذلك بقوله "وَلَوْ شِئْنَا لَءَاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ" فقرر ان نبيه غير قادر على هداية من لم يشأ هو أن يهديه، فكيف والحال هذه يمكن لمن جاء بعد الرسول المكي (ص) أن يدعي أنه يريد هداية الناس؟ فإذا كان صدقاً ما يدعيه من يدعي أنه مكلف بهداية الناس فإن لم يهتدوا فهو مكلف بقتلهم فلا بد أن الرب الذي كلفه بذلك رب غير عادل ورب عابث. فكيف يكون رباً عادلاً إذا كان قد خلق نفساً ثم شاء ألا يهديها "مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِى ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ"، ثم يرسل لها من يقتلها دون أن تكون هي قد قتلت نفساً أو إعتدت أو أفسدت في الأرض؟

ولا بد أن نتوقف هنا قليلاً عند التدوين الذي ولد في الإسلام. وأول ملاحظة هنا هي أن القوم أجمعوا على أن الرسول الأكرم (ص) نهى عن تدوين اي شيء أثناء حياته سوى القرآن. لذا فإن أول تدوين كان عن سيرة الرسول وذلك قبل أن يجمع الحديث. وأول سيرة نبوية وصلتنا هي سيرة إبن اسحاق بن يسار المتوفى سنة(151هـ) أي ان أول ما كتب عن نبينا الأكرم كان بعد 100 عام من الهجرة مما يجعل من العسير التصديق بأن ابن إسحاق روى عن من أدرك نبينا الأكرم (ص)، فكانت تلك أول العنعنة! ولم تنل سيرة إبن إسحاق الإهتمام المرجو رغم أنها أقدم السير وذلك لأسباب ليس هذا موضع الخوض فيها لأنه يتطلب تحليلاً لما جاء في السيرة مما يخرجنا عن هدف هذا المقال بعض الشيء. ثم جاء عبد الملك بن هشام المتوفى سنة(218 هـ) فأخذ سيرة إبن اسحاق وترك بعض ما جاء فيها ثم أخرج سيرته التي ذاع صيتها وعرفت بسيرة (إبن هشام). أما جمع حديث الرسول الأعظم (ص) فإنه جاء بعد ذلك حين جمع البخاري المتوفى سنة (256 هـ) أول كتب الحديث، أما كتب التأريخ فإنها وضعت بعد ذلك.

فما الذي نستخلصه من هذه التواريخ؟

إن كتابة السيرة النبوية وجمع الحديث فضلاً عن وضع تأريخ صدر الإسلام لم تبدأ إلا عند نهاية الدولة الأموية في عام (132 هـ). وهذا يعني ولا شك أن خلفاء بني أمية حكموا بعقولهم واجتهادهم في فهم القرآن حيث إنه لم يكن بين يديهم ما يقيدهم بفعل غير ذلك من سيرة أو حديث أو فقه. وهذا يعني بالضرورة أن السياسة هي التي حددت معالم الدولة الإسلامية وليس الدين. وهذا يعني بشكل أدق أن السياسة هي التي أوجبت على الدين أن يتكيف على وفقها. فقد وجد المؤرخون وجامعو الحديث والفقهاء أنفسهم أمام حقيقة قائمة وهي الميراث السياسي لخلفاء بني أمية فكان عليهم أن يختاروا أحد موقفين: إما تحليل تلك السياسة في ضوء فهمهم للدين وما يمكن أن يترتب على ذلك من طعن في بعض السياسات لتعارضها مع الإسلام، وإما قبول تلك السياسة وإيجاد الحلول والمسوغات الدينية لتخريجها.

ولا يخفى حتى على القارئ العابر أن يستخلص ما هو الموقف الذي اختاره هؤلاء المسؤولون. فقد قرروا أن يقروا بسلامة كل سياسة خلفاء بين أمية ويدعوا أنها من صلب الدين ثم عكفوا بعد ذلك على إيجاد الأعذار والتفسيرات. وقد فعل بعضهم ذلك بسبب حرصهم على الأمة كما تصوروا لأن الطعن بعدم تطابق بعض السياسات مع الدين كانت ستعرض الأمة لخلل كبير وربما كانت ستخلق فتنة "لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ مِنكُمْ خَآصَّةًۭ". وفعل بعضهم ذلك بسبب الجهل، ذلك لأن عدداً من الفرس الذين دخلوا الإسلام لم يكونوا حقاً قادرين على إستيعاب القرآن لصعوبة لغته حتى على العرب فاعتقدوا أن خلفاء المسلمين من قريش لا بد كانوا عارفين بدخائل الدين ففعلوا ما فعلوه يقيناً وصواباً.

فأول ما أدخله المؤرخون في السلوك الإسلامي لفظة "الغزو" الجاهلية وهي كلمة لم ترد ولا الفعل "غزى يغزو" ولا اي من تصريفاته قط في القرآن بحق المسلمين ولكنه تعالى حين قال:"يا ايها الذين امنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم اذا ضربوا في الارض او كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير"،  فإنه جعل الكافرين هم الغزى فجاءت في موضع الذم ما يؤكد ما أسلفت ولم يصف تعالى المسلمين في أي موضع في القرآن بأنهم غزى. ولم يكن خلو الكتاب منها مصادفة ولا سهوا منه تعالى وحاشاه من السهو. ولكن لعلة واضحة لكل ذي بصيرة. وسبب ذلك أن "الغزو" سنة جاهلية جاء الإسلام ليلغيها فأنكرها رب العزة على المسلمين فلم يحدثهم عنها. لكن مؤرخي المسلمين الأوائل حين وجب عليهم شرح الغزو الذي قام به خلفاء بني أمية لم يجدوا أسهل سبيل لتسويغ ذلك من نسب  الغزو للرسول الكريم (ص) فكتبوا عن غزواته. وأول الغزوات عندهم كانت "غزوة بدر" كما وصفها إبن هشام في السيرة وأخذ عنه اللاحقون. لكن العرب يعرفون أن معنى الغزو هو كما عرفه ابن منظور في لسان العرب في قوله: "والغَزْوُ: السيرُ إِلى قِتالِ العَدُوِّ وانْتِهابه." وهو تماماً ما كانت تفعله القبائل في الجاهلية. والغزو هو الكلمة المهذبة "للعدوان" فكيف يكون السير نحو قوم لقتالهم ونهبهم إلا عدواناً؟ وكيف كانت "معركة بدر" بهذا المعنى غزوة؟

فقد جمع أبو سفيان واحداً من اكبر الجيوش في تأريخ العرب القديم ليزحف به على المدينة ويقضي على دولة الإسلام التي أصبحت تهدد موقعه... لقد بلغ جيش أبي سفيان في عدده ما جعل رب العزة يرحم المؤمنين بأن أمدهم بخمسة آلاف من  الملائكة يقاتلون معهم ويشدون من عزائمهم ولو كان بضعة أنفار لما احتاجوا لذلك الدعم.... فما الذي فعله رسول الرحمة (ص) سوى أن تصدى لهم دفاعاً عن نفسه وقومه ومعتقده؟ فكيف يقال أنه (ص) غزى وكانت بدر غزوة له؟ فكيف يكون المدافع غازياً؟ ثم استمروا بوصف كل حروب النبي (ص) على أنها غزوات.... فحتى معركة الخندق التي حوصرت فيها المدينة سميت غزوة، ولعمري لا أدري كيف غزى فيها النبي الأكرم (ص) وهو يجلس خلف خندقه؟

إن استعمال هذا اللفظ لم يكن عفوياً بل كان مقصوداً في سبيل زرع مفهوم الغزو في عقول المسلمين على أنه سلوك طبيعي للرسول (ص) فمتى ما استقر هذا في أذهان الناس عندها يصبح الحديث عن غزوات الخلفاء أمراً مشروعاً ومقبولاً لا يجادل فيه أحد ما دام النبي (ص) قد مارسه... وهكذا نشأ المسلمون لألف عام وهم يدرسون هذا في كل مراحل الدراسة وفي المساجد وفي كل مناسبة دينية.

هكذا إذن قرر واضعو كتب التأريخ أن يبدأ التدوين بجعل قاعدة الإسلام قائمة على الغزو.. أي غزو الأقوام خارج أرض العرب...لكنهم وجدوا كما وجد الفقهاء معهم حاجة في أن يجدوا دعماً للغزو في القرآن أو في الحديث فإن أمكن ذلك كان به وإن لم يمكن العثور على أي دعم لسلوك ما من القرآن فإنه لا بد من إيجاد حديث يدعمه حتى إذا اقتضى ذلك وضع الحديث! وحين عجزوا أن يجدوا نصاً صريحاً يدعو للغزو مما يجعل سلوك خلفاء بني أمية مطابقاً للدين وليس سياسة فقط فإنهم اجتزؤا بآيات خارج سياقها في القرآن وجعلوها سنداً لتسويغهم العمل. وقد تغلغل هذا في شعور ولا شعور المسلمين لقرون حتى لأعجب إن كان بالإمكان زعزعة ذلك وإيقاظ الناس للتفكر فيه... لكن دعونا نحاول!

وليس أوضح موضع لأخذ المثال من سورة البقرة حيث ورد فيها القتال بالتفصيل في عدة آيات. فقال تعالى: "وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ." فأمر المسلمين بقتال من يقاتلهم لكنه نهاهم عن أن يعتدوا، ونهيه هذا لا رجعة فيه. فلا يقولن أحد أنه تعالى حلل العدوان في موضع آخر من أجل نشر دينه فحاشاه أن يناقض نفسه لأن أمره ليس متعلقاً بوقت ولا يدخل عليه حدوث وقوله فصل. فالنهي عن العدوان شرعة لا إجتهاد فيها لا لخليفة ولا لفقيه مهما أسلم ذلك الشخص وصلح إسلامه أو مهما علت درجته أن يغير ذلك أو يضيف عليه اللهم إلا أذا كان ذلك لحمية الجاهلية فيه! وهكذا وجب أن تقرأ وتفسر كل آية ذكر فيها القتال في ضوء النهي المطلق عن العدوان فمن لم يستطع أن يفعل ذلك فلا يخوضن في تفسير قوله تعالى لأنه يتجنى على رب العزة إن فعل ذلك. وهذا يكفيني الحاجة الى الخوض في آيات القتال.

وأتوقف أحياناً في ذهول حين أسمع ما يقوله بعض المسلمين عن تكليفهم بنشر الإسلام ولو اقتضى ذلك قتل الناس، وأسال نفسي كيف يمكن لهؤلاء أن يؤمنوا بهذا والقرآن وسنة نبيه (ص) توجه غير ذلك.... لكني ما ألبث أن أستفيق على قوله تعالى: "أفَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍۢ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِۦ وَقَلْبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةًۭ فَمَن يَهْدِيهِ مِنۢ بَعْدِ ٱللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ". فهم لا يعرفون من الدين إلا إسمه ومن القرآن إلا رسمه..

إن كرم رب العزة لا حدود له فقد أوصى عباده بأن الإلتزام الأخلاقي له أسبقية على التضامن الديني، فقال عز من قائل في وصف نصرة المسلم للمسلم على غير المسلم: "وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍۭ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـٰقٌۭ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌۭ". وهل هناك أكرم من هذا الخلق العظيم الذي كلف الله به عباده المؤمنين حيث إن الميثاق وهو موقف أخلاقي غدا أكبر من حق المؤمن على المؤمن. فهل يعقل أن رباً كهذا يأمر عبده أن يقتل غير المسلم لا لشيء إلا لأنه لم يرتض الإسلام ديناً؟

وإذا أردنا أن نأخذ العبرة من سنة النبي (ص) فإننا لا نجد في حياته عملاً أو توجيهاً قضى بجواز الإعتداء على من لايتخذ الإسلام ديناً لأنه (ص) كان على بينة من أمره الذي قال له "إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌۭ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ". فقد كان في شبه جزيرة العرب يهود ونصارى ولم يرد عنه أنه عرض عليهم الإسلام أو الموت إذا رفضوا... وحين حكمه اليهود في أمرهم فإنه وجههم للحكم بما جاءت به التوراة... ولم يقاتلهم حتى إعتدوا عليه فعمل بقوله تعالى: " فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُوا۟ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ ".

أما نصارى جزيرة العرب فإنه (ص) حتى لم يعرض عليهم الإسلام.... وحين جاءه نصارى نجران فإن ما جرى بينهم كان محاججة بلا قتال ولا رماح ولا سيوف وانتهت بإسلام النصارى دون قتال أو عنف بعد أن باهى الرسول الأكرم (ص) في المحاججة بأهل بيته فوصف رب العزة ذلك في قوله: "فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا۟ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَـٰذِبِينَ". فكان إسلامهم قد تم بالحجة لا بالسيف.

ولا بد من أخذ العبرة من خبر واقعة جاءت في سيرة إبن هشام لا يعرف عنها أكثر المسلمين لأنهم لم يقرؤا السيرة. أما الذي قرؤوها فبعضهم نسي الواقعة وبعضهم تناساها لسبب واضح وهو السبب نفسه الذي جعل عبد الملك بن مروان يتمنى ألا ينشغل المسلمون بالسيرة النبوية.

فقد جاء في السيرة أن الرسول الأكرم (ص) بعث سرايا تدعو إلى الله ولم يأمرهم بقتال فكان ممن بعث خالد بن الوليد إلى بني جهيمة بأعلى تهامة. وانتهت المواجهة بأن القوم وضعوا سلاحهم. وقال إبن هشام عن إبن إسحاق "فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال:اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد." ولا يخفى على العربي معنى البراءة فقد بلغ حد إقصائها أنه تعالى منع أن تبدأ سورة براءة بالبسملة حتى لا ينال من تبرأ منه بعضاً من رحمة الرحمن الرحيم في البسملة. فإذا كان الرسول (ص) قد غضب حتى البراءة لأن خالداً قتل أناساً في دعوته إياهم للإسلام فأين ذلك مما فعله الخلفاء من بني أمية وبني العباس وبني عثمان بالشعوب التي غزوها؟ وإذا كان تعالى قد قضى أن ينشر الإسلام بالسيف فلماذا لم يأمر الرسول (ص) سراياه باستعمال السيف في الدعوة؟ ثم لماذا لم يقتل الرسول (ص) أياً من مشركي مكة بعد أن مكنه الله منهم؟ بل إنه حتى لم يعرض عليهم الخيار الذي جاء به الخلفاء من بعده بين الإسلام والقتل، فمن أين جاء هذا الخيار؟ وكيف أسس لثقافة القتل في الإسلام والتي تستعمل اليوم لشحن البهائم للقتل والخراب، بعد أن كان رب العزة ونبي الرحمة قد نهى عنها؟

للحديث صلة...

عبد الحق العاني

21  تشرين الثاني 2013

ملاحظة: وصلتني طلبات من عدد من الأخوة للحلقات السابقة وحيث إن كل حلقة تنشر على مدونتي لذا أرجو ممن فاتته حلقة أن يعود لمدوتني للإطلاع عليها، وهي:

www.haqalani.com



  http://www.haqalani.com/2013/09/مسائل-من-القرآن-باب-لمن-بعث-الرسول-ال/        [i]

=============================

 

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الخامسة

انتهيت في الحلقة السابقة في السؤال عن تأريخ ثقافة القتل في الإسلام من أجل معرفة أصلها: أديني هو أم سياسي؟

ولا بد قبل البحث عن جذور ثقافة القتل أن نعرج ولو قليلاً على العقوبة في الإسلام.

فالعقاب والثواب بيد الله كما يعرف كل مسلم. وشاء تعالى في حكمته المطلقة أن يعاقب أو يعفو كما يشاء في الحياة الدنيا أو في الآخرة. كما انه تعالى قَسَّم الإثم الذي يستدعي العقوبة قسمين، فإثم يضر بعموم الناس فيكون إثماً عاماً وإثم يلحق الضرر بصاحبه فقط فيكون إثماً خاصاً. وحين سن تعالى سننه للأمم فإنه قرر أن للأمة حق العقوبة في الإثم العام لكنه لم يعط الأمة حقاً في معاقبة الإثم الخاص إذ أبقى ذلك له يعاقب عليه أو يغفر كما يشاء.

وهكذا نص في القرآن على العقوبات التي للأمة الحق في أن توقعها وهي التي تقع على الجرائم العامة مثل القتل غير المشروع والسرقة والزنا وشهادة الزور.... لكنه تعالى لم ينص على عقوبة الإثم الخاص وهوالإثم الذي يضر مرتكبه فيه بنفسه وليس بالأمة مثل شرب الخمر والإرتداد والخروج عن الإسلام...لأن هذه الآثام وما كان على شاكلتها لا تضر بالأمة ولذلك ليس للأمة حق إيقاع العقوبة بمرتكبها كما هو الحال في عقوبة القتل والسرقة على سبيل المثال...وأعتقد أن أكثر الفقهاء لم يلتفتوا لهذه الحقيقة والحكمة الإلهية فيها لذلك فإنهم حين قرروا أن يسوغوا لولي الأمر عقوبة لم ترد في القرآن، وذلك بسبب أن السياسة والمصلحة العامة اقتضت فرضها، ولم يجدوا لها تخريجاً دينياً فإنهم عمدوا للقياس كما فعلوا في عقوبة شارب الخمر والتي بنيت على إحتمال قيام المخمور نتيجة أثر الخمر فيه أن يفتري فقالوا "إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري" مما أمكن إيقاع تلك العقوبة.. رغم أن في هذا القياس خللين. أولهما أن رب العزة لم ينص على ذلك ولو أراد أن يفعل لفعل، وثانيهما ان القياس غير سليم لأنه لا يقتضي أن كل مخمور سيفقد المقدرة على التحكم بعقله فيقول شهادة زور ولا يمكن أن توقع العقوبة بالشبهة في أن المخمور سيفعل ذلك رغم عدم ثبوت أنه كان سيفعل ذلك!

فأين يجوز القتل في الإسلام وأين يمتنع ذلك؟ وأعني بهذا ما الذي قرره رب العزة في القرآن، وليس ما قاله خليفة أو فقيه فذلك لا يعنيني لأن ما قاله تعالى هو أمره في الخلق وهو صلب الدين وما قاله غيره مما لم يقله هو فهو من السياسة وهكذا يجب أن يوصف.. فلا يقولن أحد انه تعالى ترك لخليفته في الأرض أن يقرر حكمه.. فهناك فرق كبير بين الحال الذي نص فيه تعالى على حكم وما تركه متعمداً دون أن ينص فيه على حكم. فما نص عليه القرآن من حكم فليس لأحد من الخلق أن يغيره ولم يصب أي فقيه مهما بلغ علمه، في القول ان للرسول أن ينسخ أمراً قرآنياً، فليس لأحد أن يفعل ذلك ذلك لأن من الممكن وضع الحديث أو السنة ونسبتها للنبي وليس هناك من عاصم ولا حافظ لأنه تعالى شاء ألا يحفظ إلا القرآن. أما ما تعمد تعالى أن يتركه، لا سهواً ولا عبثاً، دون أن ينص فيه على عقوبة فذلك أمره لنا كي نحكم فيه بعقولنا وإجتهادنا. وقد نصيب في الحكم وقد نخطئ لكنه كله من أمر الدنيا وما يصلح لها من تقلب مع الزمن وتغيره، أي أنه ما دام من إجتهاد البشر فهو عرضة للتغيير.

والقتل من العقوبات التي نص عليها القرآن ولم يعد لنا فيها إجتهاد. فقد حدد تعالى جواز القتل في القرآن في ثلاث حالات فقط لا رابع فيها. وهي أولا القتل في الحرب التي يقاتل فيها المسلم دفاعاً عن نفسه لا معتدياً ولا غازياً لأنه كما أسلفت نهى نهياً تاماً عن العدوان فقال" ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين". أما الحالتان الأخريان لجواز القتل في غير الحرب الدفاعية فقد نص عليها في قوله: "انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا"، وهذا يعني أنه تعالى أجاز للأمة أن تعاقب بالقتل إثمين فقط وهما إثم قتل النفس بغير حق وإثم الفساد في الأرض. وما دون ذلك من إثم فليس للأمة أن توقع فيه عقوبة القتل وليس لأحد أن يحدث هذا أو يجتهد به... ذلك لأن عظمة النفس عند الله كبيرة حتى أنه جعل من يسلبها دون حق كمن يقتل أهل الأرض كلهم جميعاً فكيف يمكن لأي إنسان أن يحكم بقتل نفس إرتكبت جرماً لم يقض الله به أنه يستحق القتل؟

وهذا الباب ولا شك سيثير أكثر من شخص، لكنه دعوة صادقة لحوار عقلاني للوصول إلى أصل ثقافة القتل التي طلعت علينا كأنها رؤوس الشياطين لتأكل الأخضر واليابس. فكيف لنا أن نوقفها إذا لم نعرف جذورها وما يغذيها؟

فحين أقول ان القتل لم يجزه تعالى إلا في الحرب الدفاعية عن الإسلام فإني أعني به أنه لا حرب هجومية يمكن للمسلم أن يقوم بها فيقتل بها ناساً دون أن يرتكب في ذلك الهجوم إثماً. وهذا يعني بالتبعية أن كل هجوم بحجة نشر الإسلام يصبح تحت هذا الباب جريمة. ودليلي في ما أقوله هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو حسبي فيما أدعي! فليس في كتاب الله آية واحدة تدعو لنشر الإسلام بالقوة بل إن القرآن ينهى عن العدوان ويدعو للحكمة والموعظة الحسنة وبين هذه والقتل ما بين السماء والأرض.

فإذا وجد أحد آية في القرآن تدعو المسلمين لقتال الناس دون أن يكون هؤلاء الآخرون هم الذين اعتدوا أو بدؤوا القتل فليأت بها. وقد تعودنا أن نقرأ آيات يؤتى بها شواهد لكنها في الغالب شواهد مجتزءة من نص وسياق متكامل فهي كمن يقول "لا تقربوا الصلاة" ثم يتوقف عن إتمام الآية "وأنتم سكارى".

فما هي الآيات التي جاء بها الكتاب الكريم التي تحث على القتال مما يعتمدها المسلم في أن الله أمره فيها بقتال الكفار ونشر الإسلام بالقوة؟

وأذكر هنا الآيات الرئيسة التي ورد فيها القتال كي نقرأها معاً:

1.      وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين (بقرة 2/190)

 

2.   واقتلوهم حيث ثقفتموهم واخرجوهم من حيث اخرجوكم والفتنة اشد من القتل..(بقرة 2/191)

 

3.   الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين  (بقرة 2/ 194)

 

4.   الا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم وهموا باخراج الرسول وهم بدؤوكم اول مرة اتخشونهم فالله احق ان تخشوه ان كنتم مؤمنين  (توبة 9/13)

 

5.    قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (توبة 9/29)

فاي من هذه الآيات يدعو للقتال دون أن يكون ذلك رداً على عدوان أو دفاعاً عن النفس والدين؟

فالآية الأولى تنهى عن العدوان فيكون ذكر القتال فيها مشروطاً بأنه رد على إعتداء وليس مبادرة به... وهكذا يجب أن يفهم كل نص في القرآن يدعو للقتال لإنه ما دام تعالى قد نهى نهياً قاطعاً عن الإعتداء ونص أنه لا يحب المعتدين فإنه وجب إلا يكون أي قتال مشروعاً إلا إذا كان رداً على هجوم أو إعتداء!

أما الآية الثانية فقد جاء فيها القتال متصلاً بقوله وأخرجوهم من حيث أخرجوكم فيكون القتال هنا رداً على عدوان وقع عليكم في إخراجهم لكم من أرضكم.

اما الآية الثالثة فتنص على أن الإعتداء يجب أن يكون رداً على إعتداء، فقاتلوهم في الشهر الحرام إذا قاتلوكم فيه... كما أن القصاص لا يمكن إلا أن يكون رداً على ظلم فليس ممكناً أن يكون القصاص مبادرة بعمل لا سابق له فإنه إن كان مبادرة فلن يكون قصاصاً!

أما الآية الرابعة ففيها القتال ردٌّ على من بدؤوكم أول مرة بالعدوان وهموا بإخراج الرسول ونكثوا العهد... وكل هذا دفاع عن النفس وليس مبادرة بقتال بهدف نشر الإسلام...

أما الآية الخامسة من الشواهد أعلاه فلي فيها حديث في وقت لاحق حين أتحدث عن الجزية ومن أين جاءت وما شرعها في القران الكريم.

فبعد هذا العرض للآيات الواضحة والبينة من الكتاب كيف يمكن أن تسود الصفحات في تمجيد القتل والغزو والعدوان بحجة أن الله أمر بها؟ فليذكر لي من شاء آية واحدة في ذلك..

وفوق كل هذا وذاك فإن رحمن السموات والأرض شاء ألا يدع رحمته التي وسعت كل شيء ألا تشمل العفو والمغفرة حتى للمعتدي إذا توقف عن عدوانه وشواهد ذلك في الكتاب كثيرة، فمنها قوله في المشركين:

" وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مامنه ذلك بانهم قوم لا يعلمون" (توبة 9/5)

فقال تعالى "أبلغه مأمنه" ولم يقل "ثم اقطع رأسه" فمن أين جاء فقهاء السوء من شياطين المسلمين ببدعة قطع الرؤوس حين أمر تعالى رسوله الأكرم (ص) أن يخلي سبيل المشرك دون أذى فستره بجهله؟

ثم أمر تعالى بالسلم فذكر ذلك في أكثر من موضع فمن ذلك قوله تعالى:

" وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم." (أنفال 8/61)

"الا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم ميثاق او جاؤوكم حصرت صدورهم ان يقاتلوكم او يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فان اعتزلوكم فلم يقاتلوكم والقوا اليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا" (نساء 4/ 90)

ويجب التوقف عند هاتين الآيتين، ذلك لأن المعتدى عليه لا يجنح للسلم ولا يلقي اليكم السلم لأنه لا يمتلك المقدرة على ذلك بل يقتضي أن يكون هذا سلوك المعتدي أو الغازي وهو ما يعزز ما أسلفت من أن المسلم قد نهي عن المبادرة بالعدوان وإن ذلك كان دائماً من عمل العدو حتى إذا شاء أن يتوقف عن عدوانه ويعرض السلم فقد أوجب تعالى على المسلم قبول السلم في قوله "فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، سبحانه وما أكرمه! وقاتل الله الذين شوهوا دينه!

حين بدأت هذه السلسلة من المقالات قلت يومها أنه لو حط أحد من خارج كوكبنا وسمع ما يقوله ويفعله بعض المسلمين اليوم لما قبل بالإسلام ديناً وربما كان أميل لقبول النصرانية ديناً بدل الإسلام.. والحقيقة إني لا أريد أن أدخل في جدل فلسفي ديني حول أصل الأديان عند الساميين لأن هذه قضية ذاتية يعتقد بها من يعتقد ويرفضها من يرفضها ولا مشكلة عندي في ذلك فلست أسعى لإقناع أحد بأن الإسلام أفضل من النصرانية أو من أي دين آخر، ذلك لإني ملتزم بقول له تعالى لم ينتبه له أغلب المسلمين ويتحاشاه فقهاء المسلمين وهو قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون" (المائدة 5/105)... فما شأني بمن لم يرد الله هدايته أو من لم يرد هو أن يزكي نفسه "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها "...

لكني لا بد لي أن أبين هنا أني أعتقد ان الأديان في جوهرها واحدة وان كل دين جاء لقوم بلسانهم ليخرجهم من ظلمات الجسد إلى نور الصفاء النفسي. فلا يمكن أن يكون للكون خالق واحد، وهو ما تتفق عليه الإديان ولا شك، ثم يكون هذه الخالق الواحد مشتتاً للأفكار وباعثاً برسائل مختلفة.. فهو هو لم يتغير حين بعث موسى (ص) أو عيسى (ص) أو محمد (ص)... كلهم جاء من هذا الخلق والحجة التي أخذت عليهم حين أخذ من بين آدم من ظهورهم، وكل منهم جاء بلسان قومه لينذر وليس بينهم هاد "إنتما أنت منذر ولكل قوم هاد". فلا يمكن أن يكون هذا الرب الكبير قد أمر عيسى (ص) بأن يدعو قومه للحب والتسامح ثم أمر محمداً (ص) أن يدعو قومه للقتل والعدوان والغزو.. إن الذي كف أيدى المؤمنين في الدنيا عن السامري هو الذي كف أيدي المؤمنين في الدنيا عن يهوذا الإسخريوطي وهو الذي كف أيدي المؤمين في الدنيا عن أبي سفيان...ذلك لأن القتل له فهو يقتل إذا شاء ويعذب متى شاء ويغفر حين يشاء!

وهذه الأديان جاءت للأقوام التي تعيش على هذه الأرض وبلسان هذه الأقوام فجاءت التوراة بالعبرية وجاء الإنجيل بالآرامية وجاء القرآن بالعربية....وكل كتاب منهم جاء لينذر القوم الذين عرفوا ذلك اللسان.. ودون أن ندخل في البحث في تأريخ أديان هذه المنطقة نكتفي ببحثنا عن القرآن ورسالته ولمن جاءت..

فحين كتبت سابقاً ان الإسلام هو دين العرب فإن ما كتبته لم يعجب بعض أصدقائي أما أعدائي فقد كثروا ولا أفكر حتى في التخفيف عنهم.. لكني يهمني أن أشرح لأصدقائي لأني على يقين أنهم ليسوا في معرض التشهير ولكنهم يترددون بقبول ما أقوله ربما بسبب عمق جذور ما تعلموه ورغبة في الإستزادة.

فكتب لي أحدهم بان الإحتجاج على ان الإسلام جاء للعرب في قوله تعالى "ولتنذر أم القرى ومن حولها" ليس دليلاً كافياً ذلك لأنه لو كان ذلك سليما لوجب القبول بقوله تعالى "وأنذر عشيرتك الأقربين" ولأكتفى الرسول (ص) وتوقف عند إنذاره لبني هاشم...وهو إعتراض معقول لو لم يقم أكثر من دليل قرآني وعقلي يناقضه...

فحين أُمر (ص) أن يبلغ فإنه صرح وكان أول من سمع التصريح من كان في بيته وهما زوجه خديجة وابن عمه وربيبه علي، فاسلما من يومهما...ثم جاء التكليف الألهي أن أنذر عشيرتك الأقربين فجمع بني هاشم وعرض عليهم ما كلف به من تبليغ وفي ذلك تفاصيل تأريخية لست بصدد البحث في صحتها من عدمه.. وحين اجتمع حوله نفر من خاصة المؤمنين من الذين لبوا يوم الذرالأول في قوله "واذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين." فقد صرح له تعالى أن ينذر أم القرى ومن حولها من العرب فقال عز من قائل:

" وكذلك اوحينا اليك قرانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير" (الشورى 42/7)

وقبل التوقف عند هذه الآية وما يسندها من الكتاب لا بد من القول ان الأمر الإلهي لم يأت بعد ذلك ليأمره (ص) أن ينذر أهل الأرض أو ينذر أهل الصين أو ينذر الروم على سبيل المثال لا الحصر فقد توقف الأمر في أم القرى ومن حولها... وقد يسأل السائل لماذا توقف الإنذار عند أم القرى ومن حولها؟

والجواب في الآية نفسها...وهو ان القرآن عربي، والإنذار لا يكون إلا بلسان القوم وقد ألزم تعالى نفسه بهذا حين قال:

" وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" (إبراهيم 14/4). وحاشاه أن يعود عن هذا...

وقد ذكر تعالى عروبة القرآن في إحدى عشرة أية وكلها واضح وبين في أن القرآن عربي والحكم فيه عربي:

"وكذلك انزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت اهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق." (الرعد 13/37)

وحين ميزه عن لسان كتاب موسى رغم تطابق ألواح موسى (ص) وفرقان محمد (ص) في كل شيء قال تعالى:

" ومن قبله كتاب موسى اماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين." (الأحقاف 46/12)

وحين قال تعالى:

" ولو جعلناه قرانا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين امنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد" (فصلت 41/44)

فإنه قطع الطريق على كل من يقول بأن الإسلام جاء لكل أهل الأرض وانهم مكلفون بإتباعه.. ذلك لأنه أجاز للعربي أن يسأل، لو أن الإنذار جاءه بغير العربية فيقول أأعجمي وعربي؟ فكيف يكون عادلاً مع العربي في أن يسمح له بهذا السؤال ولا يكون عادلا، على سبيل المثال،  مع الصيني لو افترضنا أنه سئل يوم القيامة عن القرآن أن لا يقول:  لولا فصلت أياته أأعجمي وصيني؟

فالإسلام دين العرب جاء بلسانهم "لتنذر قوما ما انذر اباؤهم فهم غافلون".....فهو هوية العرب وهم أهله.. فعروبة القرآن ليست موضع نقاش أو تنازع وهو بإيجاز قرآن العرب!!  لذا أجد من الصعوبة أن أسمع من يذكر لنا هندياً أو أفريقياً أو ألبانياً ممن لم يعرف من اللغة العربية حتى مؤخرتها وهو يحاضر في الفقه وشرح القرآن وهو لا يعرف لماذا ابتدأت كل سورة في القرآن بالباء وليس بأي حرف آخر، فحتى سورة التوبة التي خلت من البسملة فإنها بدأت بباء "براءة"؟ وكيف يوحي الله  بـ "حم عسق"؟ والف وألف من الأسئلة... لقد نجح اليهود في شيء فشل فيه المسلمون، ذلك أنهم لم يجيزوا أن يكون الشخص يهودياً ما لم يفهم التوراة بلغتها الأصلية فيتعلم اليهودي، من أم يهودية وأينما كان، اللغة العبرية حتى يفهم كلام الله الذي خص به موسى (ص).. فكم من المسلمين الذي تجاوزا ألف ألف ألف يعرف العربية؟ وكيف يكون إسلامهم والحالة هذه ذا قيمة دون معرفة صادقة وحس بالقرآن؟ فالإسلام ليس سجوداً عن جهل ذلك لأنه لو كان كذلك فإن الدواب تكون أكثر إسلاماً من البشر لأنها ساجدة كل حياتها فرؤوسها في الأرض"إن نشأ ننزل عليهم من السماء اية فظلت أعناقهم لها خاضعين".

ولا يظنن أحد أني أمنع على إنسان أن يختار فمن أراد أن يعتنق الإسلام من غير العرب فلست من يرده، لكني أقول انه ليس مكلفاً بذلك.. أما إذا أرد أن يعتنق الإسلام فعليه أن يستعرب كي يقبل عليه... وبعد ذلك له ما على العرب وعليه ما عليهم في أمر الدين.

فما الذي فعله رسول الرحمة (ص) في الدعوة لغير العرب، وهل حدث هذا؟ هذا ما سأحاول البحث فيه في الحلقة القادمة.

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

5  كانون الأول  2013

ملاحظة: وصلتني طلبات من عدد من الأخوة للحلقات السابقة وحيث إن كل حلقة تنشر موجودة على مدونتي لذا أرجو ممن فاتته حلقة أن يعود لمدوتني للإطلاع عليها، وهي:

www.haqalani.com

=============================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة السادسة

كنت قد انتهيت في الحلقة الماضية عند القول بأن الإسلام جاء بلسان العرب للعرب لا غيرهم ذلك لأنه تعالى أخذ على نفسه العهد بأن لا يعذب حتى يبعث رسولاً وأنه ينذر كل قوم بلسانهم، فكما فعل مع العبريين بالعبريية ومع الآراميين بالآرامية ولا شك فعل ذلك مع الصينيين بالصينية ومع الهنود بالهندية وما شابهها، وهكذا فإنه فعل مع العرب بالعربية.. وهذه حكمته وعدله ولا يمكن أن تكون إلا كذلك. فحين يقف العبد من غير العرب بين يديه فكيف سيحاسبه تعالى عن عدم قبوله بالقرآن الذي جاءه بغير لغته؟ أليس لذلك العبد الحق في أن يسأله تعالى عن سبب طلبه منه أن يتبع نذيراً بلغة خلق لغيرها وأن يقرأ كتاباً جاء لقوم آخرين يقص على أولئك القوم قصصاً وعبراً من تأريخهم وهو، أي ذلك الكتاب، لم يذكر قصة واحدة ولا عبرة ولا آية مما حدث لقوم ذلك العبد الواقف بين يديه حتى يمكن له أن يعتبر ويصدق؟

وقد علق أكثر من واحد على أني أغفلت سنة النبي وأشرت فقط للآيات الكريمة في الكتاب، وليس عندي أدنى شك في أن ما قاله الرسول (ص) وفعله ملزم وما لم يقله أو يفعله فليس ملزماً "وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"... فقد يكون ما قاله أو فعله من جاء بعده صائباً وقد يكون باطلاً..  لأنه تعالى لم يقل ( ما آتاكم الرسول وصحبه فخذوه..)  فلا يقولن أحد أن أحد الصحابة اجتهد فكان ذلك من الدين لأن الدين هو الكتاب وسنة النبي الثابتة لا المؤولة.. وما دون ذلك سياسة ليس غير.. فلماذا يراد مني أن اقبل ما صنعه أي من البشر على أنه من أمر الله وهو، أي ذلك الشخص، لم يؤت شيئأ أكثر مما أوتينا من عقل فتساوينا فيه فما لذلك السابق أكثر مما لنا. فإذا كان هناك تأويل فنحن فيه سواء، فلا يسودن أحد لأنه سابق.. فقد كان بين السابقين الذين أدركوا رسول الله (ص) منافقون ذكرهم تعالى وحذر منهم.. ومنهم من ظلوا على نفاقهم.. وهكذا لم يكن سبقهم للمشاهدة كافياً لسبقهم إيانا في المعرفة والإيمان... كما أن من بين الصحابة من يدخل النار ذلك لأن صحبته (ص) ليست مانعاً من الضلالة ، فقد روي عنه (ص) أنه قال "يؤتى بقوم يوم القيامة يساقون إلى النار فأقول أولاء أصحابي فيقولون لا تدري ماذا أحدثوا بعدك"!

وقد أكد الرسول (ص) أن قومه ليسوا معصومين من الضلالة التي وقع فيها أقوام قبلهم، فقال لهم في خطبته الأخيرة في حجة الوداع (فلا ترجعن بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ولو لم يعلم أن هذا سيقع لما حدثهم عنه "وما ينطق عن الهوى".

نعود الآن لمواصة حديثنا عما فعله الرسول الأمي (ص ) مع العرب وغير العرب.

فيكون السؤال التالي هو هل ان الرسول (ص) جعل سنته دعوة اليهود والنصارى للإسلام؟ فإذا ثبت أنه فعل ذلك ولما كانت سنته متممة للقرآن لا ناقضة له فقد وجب إعتماد ذلك. أما إذا لم يثبت أنه (ص) دعى اليهود والنصارى للإسلام فقد أغلق الجدل حول هذا الأمر. ولا أعني بالدعوة هنا المحاججة أو الحوار فإنه من البديهي أن هذا لا بد قد حدث فمن غير المعقول أن ديناً هز جزيرة العرب واجتث الوثنية منها كان من الممكن أن يمر دون أن يخلق حواراً وجدلاً مع اليهود والنصارى خصوصاً وان القرآن تحدث كثيراً عن هذين الدينين اللذين سبقاه. ولكن الذي نبحث عنه في التأريخ هو ما إذا كان الرسول الأكرم (ص) قد دعى يهود ونصارى العرب بالخيار، الذي سنه اللاحقون، بين الإسلام أو الجزية أو الموت، والذي تحول لاحقاً إلى خيار القتل باسم الدين!

وكان في جزيرة العرب يهود ونصارى... وكان اليهود على إحتكاك مستمر مع المسلمين بسبب وجودهم في المدينة إلى جانب وجودهم في اليمن حيث كان النصارى كذلك. ولم يرد في السيرة النبوية أنه (ص) خير أياً من الإثنين بالخيار الثلاثي... وقد ترك اليهود في المدينة يعيشون على وفق دينهم وكتب ابن هشام في السيرة "قال بن إسحاق وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم". وحين حكموه في بعض خلافاتهم وجههم للحكم بما جاءت به التوراة....فأسلم من أسلم منهم طوعاً... وبقوا كذلك حتى تآمروا عليه وحاربوه فقاتلهم وأجلاهم عن المدينة. " ولولا ان كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار" أما النصارى فلم يرد في السيرة أنه حتى أرسل لهم رسولاً يدعوهم للإسلام لكن نصارى نجران جاؤوه وحاججوه فاسلم بعضهم... كل ذلك دون إكراه بخيار الإسلام دون الجزية أو القتل.

ولم يكن سلوك النبي الأكرم هذا مرحلياً أو بسبب أن الإسلام جاء بمبادئه بشكل متدرج كما يقول أغلب بسطاء المسلمين، وإنما كان ذلك متفقاً مع القرآن، وهو (ص) ولا شك أعرف به منا جميعاً. فشواهد القرآن تجمع على عدم جواز مقاتلة أهل الكتاب إلا في حالة قيامهم هم بالعدوان فيكون القتال دفاعاً عن النفس ورداً للعدوان. وأورد هنا بعض الشواهد للتدليل على ذلك.

فقد أوصى فاطر السموات والأرض نبيه وإيانا بأن الحكم بين الأديان هو بيده وليس لنا فقال: "إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ". فإذا كان هو الذي يفصل بين عباده فكيف نقدر أن نحكم ونحن نجهل حكمه؟

ثم رسم تعالى الحد الأدنى لطاعته في قوله: "إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًۭا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". فجعل الإيمان بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح ضماناً لرضاه. فكيف يجوز للمسلم أن يطعن على أي من أهل الكتاب تكتمل فيه هذه الشروط؟ بل لعل الأهم من ذلك هو كيف يعرف المسلم ما إذا كان الذمي الذي أمامه من أولئك الذين رضي الله عنهم في هذه الآية؟ فكيف والحال هذه يجوز الإفتاء بوجوب قتال أهل الكتاب دون أن يعتدوا علينا؟

وقد نقل في الحديث عن نبينا الأكرم (ص) تأكيده على هذي الحقيقة حين روي عنه قوله: "افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة ، فواحدة في الجنة و سبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنين و سبعين فرقة فواحدة في الجنة و إحدى و سبعين في النار، و الذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث و سبعين فرقة، فواحدة في الجنة و ثنتين و سبعين في النار". وهو بهذا الحديث يخبرنا أن في كل دين من الأديان الثلاثة فرقة ناجية. فكيف يمكن أن يدعو لقتل شخص قد يكون من الفرقة الناجية لأن قتل المؤمن عمداً جريمة عقابها في النار "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما".

وقد عزز الكتاب جوهر هذا الحديث في أكثر من موضع. ذلك أنه تعالى قال في بني إسرائيل "يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم واني فضلتكم على العالمين" وهو تفضيل مطلق. وقال عز من قائل فيهم "ولقد اخترناهم على علم على العالمين"، وقال "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"... وهذه وغيرها تخبرنا بأن في بني إسرائيل طائفة مؤمنة.... (ولا بد من التنبيه هنا للخلل الكبير الذي وقع فيه كل المسلمين بما فيهم الفقهاء في عدم القدرة على التمييز بين "اليهود" وبين "بني إسرائيل" في القرآن ...وقاد هذا الخلل في الفهم الى تخبط كبير وعجيب في شرح الآيات كما هو الحال في شرح الآيات من الرابعة حتى الثامنة  من سورة "الإسراء". لأنها آيات في المدح وليس في الذم كما كتب عنها الكثيرون من أنصاف العارفين)...فإذا كان في بني إسرائيل طائفة مؤمنة فكيف يمكن للمسلم أن يعرف أن الذي أمامه من اليهود ليس من بني إسرئيل ممن يكون قتله مدخلاً للنار؟

أما في النصارى فقد قال الكتاب الكريم أكثر من ذلك صراحة في وجوب الحذر في التعامل معهم. فقال الرحمن الرحيم "ولتجدن اقربهم مودة للذين امنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك بان منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون". فيكون بين النصارى من هم من المؤمنين كما كان حال ورقة بن نوفل الأمي النصراني والذي رضي عنه الرسول (ص) رغم أنه لم يرد عنه أنه اسلم.

لكن الذي يجب الوقوف عنده وإعادة النظر في سياسات عديدة عمرها قرون هو قوله تعالى "اذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك الي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة ثم الي مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون". وفي هذه الآية أكثر من دليل قرآني وفيها دعوة للمسلمين للتأمل. فإذا شاء رب العزة أن يسود النصارى على الأرض حتى يوم القيامة فلا يمكن لنبينا الأكرم (ص) أن ينقض هذه المشيئة فيدعو لقتال النصارى لصرفهم عما هم عليه، لأنه لا بد أن يسود النصارى كما شاء تعالى! كما أن هذه الآية تدعو للتساؤل اليوم أكثر من أي وقت مضى عن مدلول سيادة النصارى في الأرض الآن!

إذا كان الرسول لم يدع النصارى واليهود العرب للإسلام بخيار الدين أو الجزية أو القتل فكيف كان سيدعو غير العرب بذلك؟

وكتب لي أحدهم يسأل عن دعوة الرسول الأكرم (ص) الملوك خارج أرض العرب للإسلام، وهو موضوع يكاد يكون من المسلمات التي لا يسأل أحد عن صحتها. فلننظر في خلفية هذا الموضوع لنرى مدى دقة السرد التأريخي.

واول ما نبدأ به هو ما ورد بهذا الصدد في السيرة النبوية، فقد أورد إبن هشام:

" فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً من أصحابه وكتب معهم كتباً إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر وعياد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي الحنفيين ملكي اليمامة وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام."

ويمكن قبول خبر إرسال رسله ذلك لأنه (ص) كان قد أسس دولة وكان طبيعياً أن يرسل السفراء للدول الأخرى من أجل تحقيق إعتراف تلك الدولة بدولته الناشئة وإقامة علاقات سلام وحسن جوار كما ينبغي. وليس هناك ما يدعو للشك في أنه (ص) أرسل رسله لملوك وأمراء العرب مثل ملكي عمان وملكي اليمامة وملك تخوم الشام وهمدان وكثير غيرهم ذلك لأنه كلف بأن ينذر أم القرى ومن حولها وهذه ولا شك هي المقصود بالقرى حول مكة... لكن هناك توقفاً حول دعوة الملوك من غير العرب مثل قيصر الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر ونجاشي الحبشة. وقد يكون إبن هشام خلط بين الإثنين فعمم في أول الخبر بالقول أن كل رسل رسول الله (ص) أرسلوا للدعوة للإسلام، بينما كان الأصوب أن يفصل بين من أرسلوا لملوك العرب بالدعوة للإسلام ومن أرسلوا لغير العرب كسفراء سلام وعلاقة وحسن جوار حين لم يثبت ذلك.

ولا يمكن لقارئ الخبر إلا أن يتوقف ويسأل هنا: إذا كان الرسول الأعظم (ص) أراد حقاً دعوة النجاشي للإسلام فلماذا لم يكلف جعفر بن أبي طالب حين أرسله مع ثلة من المؤمنين في هجرة الحبشة أن يدعو النجاشي لقبول الإسلام؟ فعمرو بن أمية الضمري لم يكن أسبق للإسلام من جعفر ولا أكثر إيماناً ولا أحرص من جعفر على تبليغ رسالة الرسول النبي الأمي (ص) وهو الذي روي عنه أنه قال "لا ينبغي أن يبلغ هذا عني إلا رجل من أهلي".

لكن الشك لا يتوقف عند هذا، فقد أورد اللاحقون روايات عن نصوص رسائل وادعوا أنها رسائل (ص) إلى الملوك. واشك في مصداقية هذه النصوص ذلك لأنها لو كانت صحيحة لكانت معروفة وقت إبن إسحاق وإبن هشام ولو كانت معروفة في وقتهما وهما أقرب للرسول من اللاحقين لوردت في سيرتيهما... لكن إبن هشام، والذي أورد نصوص عقود وعهود ورسائل، أقل شأنا في السيرة لم يذكر نصاً واحداً من تلك النصوص المزعومة لرسائل من النبي (ص) لملوك الأرض والتي ظهرت في فترة لاحقة!

أما السبب الثاني الذي يدعو للشك في هذه النصوص التي ظهرت لاحقاً فهو دليل من تأريخ الآخرين... ولن أخوض في ما كتبه أو لم يكتبه الفرس أو الأحباش لكني معني بما دونه الروم. ذلك لأن أحد العلوم التي اهتم بها الروم إهتماماً شديداً هو علم التأريخ وتدوينه... فلم يترك المؤرخون الروم صغيرة ولا كبيرة إلا ودونوها.. فهل يعقل أن حدثاً بهذه الخطورة مثل كتاب من نبي العرب وقائدهم الصاعد والذي يهدد تخوم الدولة الرومانية يمكن أن يصل بلاط قيصر ولا يدونه مؤرخو تلك الفترة من الرومان، وهم الذين دونوا أحداثاً أقل أهمية عن علاقة قياصرتهم بالآخرين؟ إن خلو التدوين الروماني لأية إشارة لهذه الرسالة شاهد مؤكد يدعو للتصديق بأن تلك النصوص وضعت لاحقاً لأسباب سياسية سوف نأتي عليها لاحقا إن شاء الله، لكن يكفي القول أنها مصداق للشك الذي أضعه أمام الباحث عن الحقائق في التأريخ.

والسبب الثالث للشك عربي وقرآني، أغفله الباحثون وتغاضى عنه علماء العربية وجهله الفقهاء ولا شك. ولا أريد أن أحول هذا المقال إلى بحث لغوي أعرض فيه لعيوب النصوص التي وردت لكني أكتفي هنا بنص واحد قط وهو النص المزعوم لرسالته (ص) إلى النجاشي ملك الحبشة، فقد جاء كما تروي الروايات كما يلي:

"بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول لله إلى النجاشي ملك الحبشة سلام عليك إني أحمد الله إليك، الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس  السلام المؤمن المهيمن  وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه الله من روحه كما خلق آدم بيده وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصحي، والسلام على من اتبع الهدى"

وحيث إني لا أعجب لسكوت الفقهاء عن الخلل في هذا النص لأن أغلب فقهاء صدر الإسلام كانوا مولدين يجهلون العربية وعبقريتها وفنونها، لكني لعمري لا أدري كيف سكت علماء العربية عن هذا النص وهم الذين قضوا العقود في الخلاف على كلمات أقل خطورة وأهمية... فهذا النص ليس من لغة العرب في صدر الإسلام وهو بالتأكيد ليس من لغة سيد العرب وفصيحهم وبليغهم ويكفي للدلالة على ذلك وصف مريم (ع) بأنها " البتول الطيبة الحصينة"... ذلك لأن العرب لم تصف المرأة قط على أنها "حصينة" وما لم يسمع عن العرب لا يمكن أن يكون فصيحاً ونبينا الأكرم (ص) أجل وأعظم من أن يلحن بلسانه.. ذلك لأن معجمات اللغة العربية كلها تجمع على أن لفظة "حصينة" لم ترد إلا في الدرع فيقال "درع حصينة"... أما المرأة فيقال عنها أنها "حَصان"، فلو كانت الرسالة صادرة حقاً عن نبينا (ص) العربي الفصيح البليغ لقال "البتول الطيبة الحَصان"، فلا يقولن قائل إن هذا أمر ثانوي لأنه في صلب الصدق والأمانه وهو الفيصل بين السليم والأصيل وبين ما وضع عبثاً وإفتراءً من أجل تحقيق مآرب سياسية لاحقة، بل هو المعيب في الإسلام والذي مضى عليه ألف عام لا يجرؤ أحد على التعليق عليه... فكيف سكت علماء العربية عن هذه النصوص الهزيلة في لغتها وهي تنسب لنبينا الأكرم (ص)؟.. إن أكبر ظني هو أنهم لم يجهلوا خطل هذا لكنهم سكتوا خوفاً من أن يتهموا بالطعن على رواة الحديث وأدعياء الفقه في ما نقلوا ووضعوا!

وليت الأمر توقف عند لحن اللغة لكنه تعداه إلى المس بجوهر الدين وفقهه.. فقد جاء في النص أعلاه ذلك الخلط الذي وقع فيه كل فقهاء المسلمين دون إستثناء حين لم يميزوا بين الروح والنفس فكتبوا وتكلموا عنهما وكأنهما مترادفان لجوهر واحد .. وهما ليسا كذلك فالنفس مخلوقة، لكن الروح جوهر مختلف لا نريد الخوض فيه الآن ونكتفي بقوله تعالى "ويسالونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا".. (ولي في ما بين الروح والنفس مقال مستقل).. ونبينا (ص) أعرف بذلك مني فلا يمكن له أن يقع في جهالة الفقهاء في هذا الخلط فيقول عن عيسى بن مريم (ص) "فخلقه الله من روحه". فذلك ممتنع لأنه تعالى لم يخلق من روحه شيئاً لأن روحه لا تتجزأ حتى يخلق منها كما أنه أخبرنا أنه خلق كل شيء من نفس وليس من روح! وقد بين رب العزة ذلك في وصفه لخلق عيسى (ص) " إن مثل عيسى عند الله كمثل ادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " فاين الخلق من روح الله في هذه الاية ونبينا (ص) أكرم من أن يتقول على مولاه، وحاشاه من ذلك!

وإذا كان المسلمون صادقين في إدعاء نسبة هذه النصوص لنبينا (ص) فهناك طريق سهل وعلمي وثابت... لماذا لا يخضعون هذه الرُّقوق التي يدعون أنها الرسائل الأصلية التي بعث بها الرسول (ص) لملوك الأرض للفحص العلمي لتحديد تأريخها بدقة، ذلك لأنه حتى الحبر المستعمل يمكن اليوم تحديد عمره بدقة.. ويومها يمكن إغلاق هذا الجدل فيسكت المعترض أو يسكت المدعي! وسأكون أول المعتذرين إذا ثبت صحة عمرها لأيام رسولنا الأعظم (ص).

ها نحن نقف بعد حوالي أربعة عشر قرناً نقرأ ما نسب لنبينا الأكرم (ص) من أقوال وأفعال فنجد في بعضها خللاً... أما آن الأوان أن نواجه هذه الحقيقة وننصف نبي الرحمة وندفع عن ديننا ما شابه من دخيل وما نسب له من عيوب باسم رب العزة المنزه عن العيب؟

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

20 كانون الأول 2013

www.haqalani.com

===================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ -  الحلقة السابعة

إن البحث عن جذور ثقافة القتل وتمجيد تلك الثقافة على أنها جزءٌ من تراث الإسلام الحضاري هي الطريق الوحيد لمواجهة ما يجري في العالم اليوم على يد عدد من المسلمين من قتل وحشي وقطع رؤوس وبقر بطون وإغتصاب وسلب ونهب باسم الدين... فإذا وجدنا أن هذا فعلاً ما أراده الإسلام، ولست أعتقد أن هذا سيحدث، فإن الإسلام لا مستقبل له في الأرض.. أما إذا اكتشفنا أن القرآن ونبي الرحمة (ص) لم يقولا بما يقوله دعاة ثقافة القتل فإن الواجب العقلي والحضاري بل والديني يقضي باجتثاثهم من وسط الإسلام والتبرئ منهم علناً لا خجلاً ولا رياءً....

من أجل هذا أكتب ما أكتبه.. وأعلم أني أغضب البعض وأزعج البعض.. لكن هدفي ابعد من ذلك بكثير.. إنه مسؤولية تأريخية لا بد من التصدي لها.

وأفضي من حيث انتهيت آخر مرة..

فقد قرأ كل طالب درس التأريخ العربي في المدرسة شيئاً عن "حروب الرِّدة" التي وقعت بعد أن رحل الرسول الأكرم (ص)... وخلاصة ما رسخ في عقل كل طالب هو أن قوماً خرجوا عن سلطة الخليفة فأرسل لهم الجيوش فقاتلهم وأخضعهم لولاية الدولة، فمنهم من عاد للولاء ومنهم من قُتل ومنهم ولا شك من أظهر خلاف ما أضمر وسكت واستسلم.

وليس هناك من مشكلة في قبول هذا السلوك السياسي لأي رئيس دولة، ذلك لأن واجب رئيس الدولة هي تأمين الإستقرار في أنحاء الدولة ومنع الخروج عنها وتعريض مصالحها وأمنها للخطر... لكن التأريخ الذي درسناه وما زلنا ندرسه لا يتحدث عن الإجراء على أنه إجراء سياسي ويسكت بل يتحدث عنه على أنه أمر إلهي إقتضاه الإسلام ونفذه الصحابة بعد الرسول الأكرم (ص) حماية لدين الله...وهذا ما سأحاول بحثه هنا.. وحتى لا يظنن أحد اني أريد من هذا القول بأن ما كان سياسياً ليس دينياً وما كان دينياً ليس سياسياً.. فالأمر ليس كذلك، فقد يكون القرار السياسي مطابقاً للدين وقد يكون مناقضاً له وقد يكون موضع تنازع ديني. وكذلك يمكن أن يكون الموقف الديني ليس في مصلحة السياسة..وهنا يوجب التناقض أن يقرر الحاكم اي طريق يتبع وحين يفعل ذلك فإنه ولا شك يعرض نفسه لإنتقاد أحد الطرفين... وهذه ولا شك مشقة الحكم وعلى كل من يتصدى للحكم أن يعيش ويتعامل معها!

وربما يقول قائل ما فائدة الحديث عن "حروب الرِّدة" الآن وماذا سينفعنا النظر فيها؟ وجواب ذلك كما سيتضح من هذه المعالجة أنها أسست لسوابق خطيرة في تأريخ المسلمين ما زلنا نعيش حقائقها بل ونستند إليها في تعميم ثقافة القتل.

فما حقيقة ما حدث قبل "الردة" وما بعدها؟

إن ما وصلنا عن "حروب الرِّدة" هي مجموعة أخبار متفرقة تعطي أكثر من صورة عن الحدث وسب خروج قبائل العرب عن طاعة الخليفة..فمنها ما قال ان عدداً من القبائل خرجت لأنها كانت تعتقد أن بيعتها للرسول (ص) فلما رحل لم يعد في أعناقها بيعة... ومن تلك الإخبار ما قال أن عدداً من القبائل لم ترتض بابي بكر خليفة... ومنها ما أعلمنا أن عدداً من القبائل رفضت دفع الزكاة ولم تخرج عن الخليفة إلا في ذلك...

وهنا لا بد من وقفة.... فما الذي حدث؟

فقد وقع عدد من المسلمين في شبهة شرعية في تأويل قوله تعالى "خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم والله سميع عليم." فعدوا أن ذلك يعني أن رسول الله (ص) وحده صاحب الحق في أخذ الزكاة والصدقات فلما قُبض أصبحوا في حل منها... وهكذا قالوا حين جاؤوا المدينة لمحاججة الخليفة أبي بكر.. وكان رأي عدد من الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، ان هؤلاء ليسوا بكافرين ما داموا قد أقاموا أركان الدين الآخرى من شهادة وصلاة وصوم. وحاججوا أبا بكر في ذلك حتى نقل عن عمر أنه قال لأبي بكر: " كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال : لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً(العناق : السخلة، الأنثى الصغيرة من الماعز) لقاتلتهم على منعهم." ونقلت عنه في موضع آخر قولته المشهورة "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه".

وقد وقع هذا لمالك بن نويرة التميمي، فقد ذكر أبو الفداء في تأريخه خبر قتله كما يلي:

"كانت وصية أبي بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلًا فإن أذن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فاسألوهم عن الزكاة فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم. فجاءت خيل خالد بن الوليد بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فيهم وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد مناديًا فنادى: "أدفئوا أسراكم"، وهي في لغة قبيلة كنانة القتل وكنانة قبيلة خالد، فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكًا. وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك".

ولن أدخل في تأويل المؤرخين والفقهاء لقتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة وإستعمال رأسه حطباً لطبخ طعامه، فذلك أمر ليس في خوضه نفع وذلك لإنقسام الناس حول خالد بن الوليد ليس اليوم ولكن منذ عزله عمر بن الخطاب عن القيادة وهو في نشوة النصر...لكني أود أن أخلص مما جرى في قتل مالك بن نويرة ومن كان مثله ممن رفض دفع الزكاة بشكل خاص وبحروب الرِّدة بشكل عام بنتيجة واحدة، وهي انها، أي حروب الرِّدة، أوجدت سابقتين خطيرتين في الإسلام نهج عليها المسلمون منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا وساهمت في تأسيس ثقافة القتل في الاسلام...

وأول سابقة أنتجتها حروب الردة هي وجوب قتل المسلم إذا إرتد عن الإسلام..

وثاني سابقة هي أن من رفض دفع الزكاة يعد مرتداً وكافراً وجب قتله على وفق السابقة الأولى... وربما قاس اللاحقون على ذلك فقرروا أن كل من رفض فريضة من فرائض الإسلام عد كافراً بحجة أن الإسلام كل لا يتجزأ وأن أركانه ليست عرضة للفصل وكل واحد منها اساس في الدين...

فهل الأمر كذلك وما تأثير هاتين السابقتين على إسلام اليوم؟

فأبدأ من السابقة الثانية قبل الأولى، وأعتمد الكتاب الكريم لا انتقاصاً مما قاله نبينا الأكرم (ص) ولكني أحذر الاعتماد على حديث حتى لا يقول قائل اني آخذ حديثاً وأترك آخر خصوصاً إذا كنت لست متأكدا من مصداقية عدد من الرواة، وهو حق طبيعي لأي باحث... أما الكتاب الكريم فلم يختلف المسلمون على صدق روايته وهذا يكفيني في ما أريده.. كما أني لا أسلم يالضرورة بما فعله الصحابة بعد النبي الأكرم (ص) لأنهم أجتهدوا وكما اجتهدوا هم يحق لأي مسلم في أي وقت أن يجتهد فمن قال خلاف ذلك فقد أوقف الحكمة الالهية في الزمن، وهذا ممتنع!

وأول ما يمكن قوله هو أن الكتاب الكريم يخلو من آية واحدة تشير ولو ضمناً إلى عقوبة من يتخلف عن فريضة من فرائض الدين، كما ان من المستحيل على أي شخص أن يجزم قطعاً بأن كل فريضة من فرائض الدين مساوية لأية فريضة أخرى فإذا فقد أحدها كأنما فقد الجميع... فلا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يقول حقاً ان فريضة الحج كفريضة الصلاة، فقد جعل تعالى الأولى لمن قدر عليها فقال:  "ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا" وهي قابلة لأكثر من تأويل... بينما قضى "ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" فلا جدال فيها ولا عذر للإمتناع عنها.. فهي ولا شك فريضة وركن من أركان الدين أكبر من غيرها.. فقد يكون المسلم معذوراً إذا لم يحج، ويبقى مسلماً، لكنه ليس معذوراً ألا يصلي فإذا فعل فقد خرج عن دينه ولا شك! وقال شبه ذلك في الصيام...

أما الزكاة فأمرها الديني هو لصلاح الأمة في مساهمة المسلم في رفد الدولة لتقوم بواجبها، وليست  الزكاة في الإسلام لتختلف عن الضريبة التي فرضتها الدول غير الدينية من أجل تمكينها من القيام بواجبها في الحكم. أي ان فرض الزكاة في الاسلام عمل سياسي متمم لأمر الدين وليس أكثر أهمية ما دام كل من المسلم في دولته والكافر في دولته يؤديه... كما أنه تعالى حدد أوقات الصلوات لكنه لم يحدد مقداراً للزكاة فاختلف المسلمون بعد ذلك حولها فقالت الشيعة انها خمس المال وقالت السنة انها ثمن ذلك الخمس... وجاء كل طرف بحجته ولكل مسلم أن يقرر أين يقف من هذا. وعلى ذلك فانه تعالى لم ينص على نسبة الزكاة بينما نص على أوقات الصلاة لاختلاف قيمة كل فريضة... فإذا كان ركن الزكاة لا يقل خطورة عن ركن الصلاة أما كان للعبد أن يرجو مولاه أن ينص علىى نسبة ما يدفعه....وهل يعني تركه تعالى لتحديد مقدار الزكاة أنه جعلها عرضة للتغيير تبعاً لحاجة المجتمع بينما لم يجعل أوقات الصلاة عرضة لإجتهاد أو تغيير؟ ألم يقل تعالى "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" فجعله حقاً مطلقاً وليس حقاً معلوماً كما جاء في آية أخرى؟ أليس هذا دليل كون الزكاة فريضة متحركة تبعاً للحاجة والظرف؟ إن ما أريد قوله هو أن قيمة الزكاة في الإسلام ليست كقيمة الصلاة وأنها ليست من حيث كونها فريضة تصبح ركنا أساساً في الدين ينتقض الدين بانتقاضها...

إلا أن هذا لا يقلل من خطورتها إذا حُجبت، فحجبها يعيق الدولة عن القيام بواجبها.. وفي هذا يكون قرار الخليفة مقاتلة الممتنعين عن دفعها قراراً سياسياً سلمياً، لكنه ليس قراراً دينياً صحيحاً وذلك لأنه لم يثبت في الكتاب أن من امتنع عن دفع الزكاة يكون قد أخرج نفسه عن الملة، وإن كان قد خرج على الدولة.. وهنا يقع الفصل بين الدين والدولة سواء أشاء الحاكم ذلك أم لم يشأ!

ولا أشك في أن الفقهاء يقبلون بهذا رغم عدم تصريحهم به أي أنهم يقبلون بأن دعمهم لمقاتلة رافض الزكاة هو موقف سياسي وليس من صلب الدين.. فلو لم يكن الأمر كذلك لقالوا بوجوب قتال تارك الصوم وبوجوب قتال تارك الحج  رغم مقدرته على ذلك لكنهم لم يفعلوا اياً من ذلك.... فلماذا قالوا إذا بوجوب قتال من يرفض دفع الزكاة إذا لم يكن ذلك بدافع سياسي محض؟

وتثير مقاتلة الممتنع عن دفع الزكاة وإمكانية قتله أكثر من سؤال يتعلق بمعنى الإيمان وجوهره...ذلك لأن وجوب مقاتلة الممتنع عن فريضة من فرائض الإسلام كما هو الحال في الإمتناع عن الزكاة تعني بالضرورة أن من قضى بذلك قضى بأن نقض فريضة من الفرائض ينقض الإيمان! فهل هذا استنتاج سليم؟

سيكون سليماً لو أن الإسلام تطابق مع الإيمان، لكنهما مختلفان. وقد نص تعالى على ذلك في أكثر من موضع في الكتاب الكريم وأجمل ذلك في قوله "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا" فقضى أن من أسلم ليس مؤمناً حتى يؤمن، ففرق بين الحالين... كما أن جوهر الإيمان واحد في كل الأديان بينما فرائض الدين تختلف من دين لدين فلو كانت فرائض الاسلام أزلية وأصيلة في الإيمان لوجب فرضها على اليهود والنصارى تماماً كما فرضت على المسلمين بأنواعها وحدودها لكن الأمر كما نعلم ليس كذلك...

أما جوهر الإيمان فواحد في كل الأديان وشواهد ذلك من الكتاب كثيرة، فقد قال عز من قائل "ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة يتلون ايات الله اناء الليل وهم يسجدون" فذكر تعالى أن من بين أهل الكتاب من هو مؤمن وأن لم يسلم مما يستوجب رضى الله عنه حتى إذا كنا نجهل ذلك...

فأين هو الدليل القرآني على وجوب بل حتى جواز مقاتلة الممتنع عن دفع الزكاة رغم إيمانه بالله واليوم الآخر ورب العزة يذكرنا في أكثر من موضع بـ: "ان الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من امن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

وأن الذين :"يؤمنون بالله واليوم الاخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين".

و "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا ".

فقضى ربك أن من آمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحاً فقد نجى... ولم ترد آية واحدة في الكتاب تقضي بأن من نقض فريضة من الفرائض لا بد أنه هالك... بل لعل الادهى من كل ذلك أنه لم ترد آية واحدة تجيز لولي الأمر أن يقتل من نقض فريضة من فرائض الإسلام.

ثم إنه تعالى حدثنا عن أمر خطير حين قال: "يا ايها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فاصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين". وقال عز من قائل: " والذين ينفقون اموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا".

فأعلمنا أن دفع الزكاة والصدقات ليس فقط غير كافٍ لتحقق الايمان بل إنه قد يكون رياءً إذا لم يقترن بالايمان بالله واليوم الآخر والتي جعلها تعالى عمود الإيمان.

على أن هذا الرب الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ذهب مع عباده أبعد من هذا في المغفرة والتسامح والعفو...فقال عز من قائل "ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مسلماً"، فكيف يجوز والحال هذه أن يقال لمن ترك الزكاة وحدها أن يكون كافراً يجب قتاله؟ وهو الذي حرم قتل النفس إلا بالحق!

ثم نأتي للسابقة الثانية التي أوجدتها "حروب الرِّدة" ألا وهي وجوب قتال المرتد عن الإسلام...فلو فرضنا من باب الجدل لا غير، ذلك لأننا قررنا في ما كتبت أعلاه أن ترك فريضة من فرائض الاسلام لا تجيز مقاتلة التارك لها لعدم نصه تعالى ولا حتى ضمناً على ذلك، ونحن ليس بين يدينا في قتل النفس سوى كتاب الله... أقول لو أننا افترضنا أنه ثبت بدليل شرعي أن ترك الزكاة نقض للدين وارتداد عن الاسلام، فإن السؤال الذي ينتج عن ذلك هو: هل يجب أو حتى يجوز مقاتلة وقتل المرتد؟

فليس خفياً على أحد أن فقهاء المسلمون  منذ "حروب الرِّدة" حتى يومنا يكادون يجمعون على وجوب مقاتلة المرتد عن الاسلام...وقد ابتدعوا لذلك آلية لتحقيق ذلك القتل تقضي في ما تقضي بوجوب استتابة المرتد قبل قتله....

فهل قضى تعالى بوجوب مقاتلة وقتل المرتد عن الاسلام؟ والجواب الموجز والقاطع هو: لا ثم لا!

فإذا نظرنا في ما حدثنا به الغفور الرحيم بعيداً عما فعله واحد أو أفتى به اثنان، لوجدنا أنه تعالى ليس فقط لم يقض بوجوب مقاتلة المرتد بل قضى بوجوب عقوبة قاتل المرتد إذا كان القتل قد وقع لمجرد إرتداد المقتول وليس لأنه حمل السلاح واعتدى على المسلمين أو أفسد في الأرض!

وأول حكم إلهي هو النص الأزلي الذي كتبه على المؤمنين منذ آدمنا الأخير، حسب ما أخبرنا به وليس لنا إلا ما علمنا، والقاضي:

"من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا."

فكيف يمكن لأي شخص نبياً كان أم خليفة أم ولي أمر أن يقضي بجواز قتل نفس خارج هذا الحكم الإلهي؟ فالمرتد ليس قاتل نفس حتى يقتل وهو غير مفسد في الارض فإذا كان وقع في شبهة أو كفر فامره إلى الله وحسابه عليه...

وعزز تعالى ذلك بقوله "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، فإذا قضى تعالى أنه لا يجوز إكراه أحد كي يدخل الاسلام فكيف يمكن أن يكون تعالى قد أوجب قتل من خرج منه طوعاً كما دخله طوعاً؟ وأوصى نبيه الاكرم (ص) بذلك قائلاً: "ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ".

وختم ذلك بخطابه للمؤمنين: "يا ايها الذين امنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون". فقال لعباده أن لا شأن لكم بمن يؤمن أو يكفر إذا ما انشغلتم بانفسكم وهدايتها وصلاحها.. ذلك لأنه تعالى تولى أمر الكافرين في نصيبهم من الدنيا وعذابهم في الآخرة، وشواهد ذلك في الكتاب لا تحصى لكثرتها!

ولو أنه تعالى لم يتحدث في كتابه الكريم عن المرتد لوجدنا مخرجا في تأويل التعامل معه، لكنه تعالى قال في محكم كتابه:

" يا ايها الذين امنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم."

فأخبرنا العليم العلام أنه إذا ما ارتد قوم عن الإسلام فإنه تعال سيكفي المسلمين ذلك بأنه يأتي بقوم آخرين يجاهدون في سبيله حق جهاده ولم يقل لنا أن نقاتل أولئك المرتدين ولو شاء ذلك لكلفنا بمقاتلتهم حين تكلم عن ارتدادهم...

ثم قال عز من قائل: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة واولئك اصحاب النار هم فيها خالدون."

فقضى أن من يرتدد عن دينه ويمت فهو كافر فإن حسابه عند ربه خالداً في جهنم وليس حسابه على أيدينا كما قضى الفقهاء خطأً ولا شك!

كما ان الغفور الرحيم لم يترك الأمر عند ذلك فنبهنا لأمر خطير حين قال:

"ان الذين امنوا ثم كفروا ثم امنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا." فأخبرنا بجواز أن يعود الكافر للايمان، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز قتل من أجاز الله إمكانية عودته للايمان؟

فما الذي وصلنا من هذه الثقافة التي أنتجتها "حروب الرِّدة"؟

إن وجوب قتل المرتد عن الإسلام بل وحتى الرافض لفريضة من فرائض الاسلام اصبحت جزءً من ثقافة الاسلام التي تربى عليها المسلمون ثلاثة عشر قرناً واصبحت تتحكم بحياتنا.. ولنأخذ مثالين على ذلك من الشيعة والسنة..

فقد أفتي روح الله الموسوي الخميني، باعث نظرية ولاية الفقيه ومؤسس الجمهورية الاسلامية الايرانية، بوجوب قتل سلمان رشدي، وهو الكاتب البريطاني الجنسية الهندي الاصل، وذلك بحجة إرتداده عن الاسلام حيث أجمع الفقهاء على وفق ما أفتى الخميني بوجوب مقاتلة كل من يسيء للنبي الأكرم (ص). ولعل أكبر خدمة قدمها الخميني للكتاب البائس وهي الخدمة التي جعلت من سلمان رشدي، وهو كاتب عادي شأنه في ذلك شأنه عشرات الآلاف من الكتاب باللغة الانكليزية الذين ينتجون الغث كل عام وينساهم الناس في العام القادم، جعلت منه كاتباً مشهوراً عالمياً بل جعلت كتابه موضع إهتمام العالم فترجم لعشرات اللغات وشاعت حكاياته البائسة عن نبينا الاكرم (ص) وبيته الطاهر، ولو ان الخميني سكت عن الكتاب لنفع الاسلام أكثر لكنه التزم بما أجمع عليه الفقهاء، فأخطأ ولا شك!

والمثال الثاني هو ما خرج عن فقهاء الأعراب علناً في العقدين الماضيين من فتنة تدعو لقتل المسلمين وغير المسلمين بل بمعنى أدق، تدعو لقتل كل من يختلف عن المفهوم الأعرابي المتخلف للاسلام (ولي توسع في هذا سيأتي لاحقاً باذن الله)... فالخراب والقتل الذي شهدناه ونشهد اليوم في العراق وسورية وليبيا ومصر واليمن وتونس وأفغانستان والصومال والجزائر يمكن إرجاعه كله لثقافة القتل التي ولدت عن "حروب الرِّدة" والتي قضت بوجوب قتل المسلم المرتد.. فكل ما يحتاجه المسلم البهيمي اليوم أثناء عملية غسل دماغه (إذا افترضنا ان لديه دماغاً) هو أن يقال له أن هذه المجموعة من الناس قد ارتدت عن الاسلام فيوقع فيها القتل والاغتصاب والخراب، تماماً كما فعل المسلمون في "حروب الرِّدة"!

ترى إذا كانت "حروب الرِّدة" قد جعلت قتل المسلم المرتد فريضة واجبة، أيكون من الصعب جعل المسلم يعتقد بأن قتل غير المسلم أكثر وجوباً؟

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

1 كانون الثاني 2014

www.haqalani.com

====================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الثامنة

انتهينا في الحلقة الماضية إلى استخلاص حقيقة مهمة أثبتها لنا التأريخ ومُفادها قبول المسلمين،  منذ العام الأول لرحيل نبي الرحمة (ص)، بجواز قتل المسلم إذا منع الخليفة "عقال بعير"!

فهل يعجب المراقب اليوم أن يرى ثقافة التكفير والقتل تبعث بهذا الشكل المرعب بعد أن أُسِّسَ لها منذ العام الأول لوفاة الرسول (ص)؟

وهذا أمر في غاية الخطورة لأن إستسهال قتل المسلم لا يمكن إلا أن يقود لشعور وقناعة ظاهرة أو باطنة بأن قتل غير المسلم لا بد أن يكون هيناً.... وهكذا بدأت ثقافة القتل في الإسلام تنمو بشكل تدريجي كما سنرى في حلقة اليوم..

فما أن إنتهت "حروب الرّدة" حتى بدأ المسلمون يبحثون عن حروب جديدة خارج حدود جزيرة العرب...فبدأت صفحة "الغزو" الإسلامي التي صبغت تأريخ الإسلام منذ ذلك اليوم حتى إنتهاء الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين..

وقد سبق أن بينت أن "الغزو"، والذي إعتاد تأريخ المسلمين أن يمجده حتى أنه سمى الحروب التي قاتل فيها النبي (ص) دفاعاً عن المسلمين "غزوات"، هذا الغزو ليس إلا كلمة ملعونة في القرآن الكريم حيث إنه تعالى لم يطلق لفظة الغزاة إلا على المشركين في قوله "ـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ وَقَالُوا۟ لِإِخْوَ‌ٰنِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا۟ فِى ٱلْأَرْضِ أَوْ كَانُوا۟ غُزًّۭى لَّوْ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟ لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذَ‌ٰلِكَ حَسْرَةًۭ فِى قُلُوبِهِمْ ۗ وَٱللَّهُ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌۭ" ولم ترد حتى مرة واحدة في صفة المؤمنين... فكيف أباح المؤرخون والفقهاء لأنفسهم أن يطلقوها على سيرة النبي الأكرم (ص)؟

ثم إستعار المؤرخون والفقهاء كلمة قرآنية رائعة وهي "الفتح" لوصف الغزو الإسلامي مدعين بذلك أن غزو المسلم لأي أرض هي فتح من الله... ناسين أن لا علاقة بين قوله تعالى "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًۭا مُّبِينًۭا  لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَ‌ٰطًۭا مُّسْتَقِيمًۭا" وبين الغزو المادي لأي أرض، ذلك لأن أغلبهم لم يدرك يوماً العمق الغيبي للخلق وعلته بل وجدوا الأمر لا يتعدى الأكل والشرب والنكاح فدارت حياتهم وفقههم حول هذه لا غير! فإذا غضب أحد لما أقول فليأتنا برسالة واحدة لأحد ائمة الفقه أو المذاهب عن علة خلق السموات والأرض رغم قوله تعالى "ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰمًۭا وَقُعُودًۭا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَـٰطِلًۭا سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَاب النار". وحين يعجز عن ذلك سىآتيه بألف رسالة لهؤلاء الفقهاء وأئمة المذاهب وهي تبحث في الطهارة والحيض ومبطلات الوضوء والفرق بين "بحيرة" و"سائبة" وما شابهها من  أمور الدنيا الفانية. ويكفي لإثبات جهلهم عن إستيعاب الإسلام أنهم لم يميزوا في ما كتبوا بين الروح والنفس رغم وضوح ذلك في الكتاب الكريم!

والغزو الإسلامي لا يختلف عن أي غزو في تأريخ البشرية، فكل غاز إدعى سبباً لغزو الآخرين... وقد يكون الغازي صادقاً في هدف ما يدعيه وقد يكون كاذباً لكن النتيجة واحدة في أن الغازي يفرض إرادته إذا انتصر..ولابد من التوقف هنا عند حقيقة مهمة وهي أن الغزو وقع باسم كل دين وإن اختلفت الأداة والمساحة إلا أن كل دين إستُعمِلَ سبباً للغزو والإستعلاء والهيمنة ... فلا يقولن القبطي المتحامل على الإسلام ان غزو الصليبين الوحشي لبلاد الشام لم يكن باسم الدين.. فقد كتب أحدهم، وهو ولا شك ينظر بعين واحدة، أسطراً أنقلها هنا كما وردت بأخطائها اللغوية:

" يضيف الكثيرون الحروب الصليبية إلى الحروب الدينية ... ولكنها لا تطابق مواصفات الحروب الدينية (النوع الثالث) ، إلا أنها كانت حروب مقدسة في عرف أتباعها لأنها كانت في عقيدة بسطاء مسيحي أوروبا ، تحت حماية الإله (النوع الأول) .. وقد تحمل طابع سياسي او اقتصادي أيضا ، ولكنها لم تكن مقننة بشريعة مسيحية ، ولم تهدف في الأساس لنشر الدين المسيحي ، بل استعادة الأراضي المقدسة المسيحية التي سقطت تحت الاحتلال الإسلامي منذ القرنين السابع والثامن الميلادي ."

فكيف لا يكون إلا عمى قول من يقول ان الحروب الصليبية كانت لإستعادة الأراضي المقدسة المسيحية التي سقطت تحت الإحتلال الإسلامي؟ وهل للبريطاني القادم من شمال بريطانيا حق في القدس لكي يأخذها؟ ومتى تَنَصَّرَ حتى يطالب بهذا الحق؟ وكيف يختلف عن إدعاء المسلم أن له الحق في هداية الناس بقوة السيف؟ ثم ما هو هذا التلاعب بالألفاظ في التمييز بين حروب "دينية" وأخرى "إلهية" لنفي صفة العدوان عن الحروب الصليبية؟ إن كل غزو في التأريخ هو عدوان يهدف لإخضاع الآخرين لهيمنة الغازي وأي تسويغ خلاف ذلك ليس إلا لغواً! وقد يكون من الواجب تذكير الناس بأن ما فعله الصليبيون في بلاد الشام حين استباحوها أضعاف ما فعله المسلمون حين أخرجوهم منها...

فهل كانت حروب المسلمين في بلاد الشام والعراق عدواناً أم هداية؟ ولا يمكن لأحد أن يتغاضى عن خطورة سؤال كهذا لأنه يتعرض لأسس التأريخ الإسلامي الموروث والذي بني عليه الكثير والكثير..

والجواب على هذا السؤال له مدخلان، أولهما هو الرد على ما إذا كانت بلاد الشام والعراق تعد مما كلف به نبي الرحمة (ص) في إنذار أم القرى ومن حولها؟ والمدخل الثاني هو الإجابة على ما إذا كان قد وجب على النبي (ص) فرض الإسلام على نصارى ويهود العراق والشام من العرب؟

كنت قد بينت في الحلقات السابقة أن الإسلام جاء للعرب وللعرب وحدهم كما جاء لكل قوم دين ونذير بلسانهم " وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ"... وقد حدد تعالى لنبيه الأكرم (ص) حدود تكليفه بين سائر الأنبياء بأنه جاء "لِتُنذِرَ قَوْمًۭا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَـٰفِلُونَ" وهم الذين عرفهم في وصفه تعالى "وَكَذَ‌ٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّۭا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌۭ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌۭ فِى ٱلسَّعِيرِ".. وهذا يجيز للمسلم أن يدعي أن قتال الروم والفرس كان حرباً دفاعية لأن اصل العدوان وقع في غزو الروم والفرس لأرض العرب... وهذا القول ليس محاولة لإيجاد الأعذار لكنه حقيقة تأريخية إذ أن وجود الفرس والروم في أرض العرب كان عدواناً ورد العدوان لا يكون عدواناً فقد قرر تعالى "ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌۭ ۚ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُوا۟ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ" فيكون إرسال الجيش لبلاد الشام والعراق نصرة لعرب تلك البلاد وتنفيذاً لقوله تعالى "لتنذر أم القرى ومن حولها" ما دامت مكة أم القرى العربية وكانت بلاد الشام والعراق من تلك القرى..... وهو ما فعله الرسول الأكرم (ص) حين أرسل جيشاً لينصر أهل "مؤتة" ويرد عنهم عدوان الروم ثم عقد الراية قبل وفاته لأسامة بن زيد بن حارثة ليرد العدوان مرة أخرى وينتقم لأبيه زيد بن حارثة وجعفر بن ابي طالب وعبد الله بن رواحة ومن أستشهد معهم من المؤمنين قبل أن يعود خالد بن الوليد بجيش المسلمين مهزوماً!

إلا أن الإجابة بجواز قتال الروم والفرس في الشام والعراق لا تجيب على الباب الثاني في هل انه يترتب على قتالهم فرض الإسلام على أهل الكتاب في هذين البلدين....وهو لا ينفصل عن السؤال الذي سبق وضعه حول ما إذا كان الرسول الأكرم (ص) قد كلف بفرض الإسلام على نصارى ويهود جزيرة العرب ممن كانوا في المدينة أو مكة أو اليمن..وقد سبقت إجابتنا على هذا السؤال في أنه (ص) لم يدعو اليهود ولا النصارى للإسلام فحين أسلم نصارى نجران كان ذلك طوعاً بعد محاججتهم للرسول (ص) وليس لدعوة منه أو خيارات كما حدث لاحقاً..وحتى لو أنه كان سيدعو يهود ونصارى جزيرة العرب للإسلام فإنه كان سيدعوهم كما أمره مولاه أن "ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ" لا بالسيف!

كما ان حرب المسلمين في الشام والعراق اتصفت بمبدأ آخر لم يعرفه المسلمون في عهد الرسول وهو عرض الخيارات الثلاثة بين الإسلام والجزية والقتل...ولا أعرف إذا كان بمقدور أحد أن يحدد بدقة من وضع هذه القاعدة الحربية التي أصبحت سنة كل الغزو الإسلامي بعد ذلك لكن هذا الأمر ليس مهماً بالنسبة لبحثنا هذا، إنما المهم هو ما هي القاعدة الشرعية التي استند إليها واضع هذه الخيارات.... وكيف طبقت هذه القاعدة على الأرض المقهورة.

وأي قارئ للتأريخ وليس الباحث أو الدارس له لا بد أن يتوقف ليسأل سؤالاً في غاية البساطة: كيف يمكن لأي شعب أن يجيب على طلب جيش يقف على حدوده وهو يسأله أن يختار بين كتاب لا يعرف لغته ولا شيئاً عنه وبين أن يدفع ضريبة إذا رفض أو أن يقتل إذا رفض الإثنين؟ أي بمعنى آخر أليس من قبيل تسخيف عقول الناس دعوتهم لقبول ان المسلمين منحوا الآخرين خيارات حقيقية قبل قتالهم حين كانوا يعرضون عليهم أن يختاروا بينما كانت جيوشهم تقف على حدود القرى والمدن؟

ولا بد من التوقف عند الجزية وفرضها.. وأول ما يواجه الباحث عنها أنها وردت مرة واحدة في الكتاب الكريم في قوله تعالى:

" قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ حَتَّىٰ يُعْطُوا۟ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍۢ وَهُمْ صَـٰغِرُونَ".

وفي هذا دليل لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!

والجزية ليست عقوبة كما يعتقد البعض فمصدرها الفعل "جزي" ويعني " قيام الشيء مَقامَ غيره ومكافأتُه إياه" منه قوله تعالى: "لا تَجْزي نفسٌ عن نَفْسٍ شَيئا". وهو يقع في العقاب والثواب معاً ومن ذلك قوله تعالى في الحالين:

"إِنِّىٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ ۚ وَذَ‌ٰلِكَ جَزَ‌ٰٓؤُا۟ ٱلظَّـٰلِمِينَ"

" فَأَثَـٰبَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُوا۟ جَنَّـٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَـٰرُ خَـٰلِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَ‌ٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ"

وهي ضريبة كما أخبرنا ابن فارس قي مقايييس اللغة:

" والضّريبة: ما يُضرَب على الإنسان من جزيةٍ وغيرها". فجعل الجزية ضريبة. وجاءت بمعنى "خَراج الأرض".. فلما نص الكتاب الكريم على وقوعها على أهل الكتاب فإن معاجم اللغة أدخلت المعنى الجديد لها لتقول ان :"الجِزْيَةُ ما يُؤخذ من أهل الذمّة، والجمع الجِزَى." إذ أن هذا الإستعمال لم يكن معروفاً قبل الإسلام. وهكذا يتضح أن أحد معاني الجزية هو الضريبة التي فرضت على أهل الكتاب خلاف الزكاة التي فرضت على المسلمين.

فإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يفرضها رسول الله على يهود المدينة إذا أردنا أن نبحث في يهود جزيرة العرب فقط دون نصاراها؟ فقد أسس الرسول (ص) دولته في المدينة في العام الأول للهجرة وعاش اليهود في المدينة مع المسلمين لسنوات قبل طردهم منها. ألم يكن من المتوقع أن يفرض عليهم الرسول (ص) الجزية إذا كانت فريضة سماوية كما قال وفعل من جاء بعده (ص)؟

ولا يمكن أن يكون سبب إمتناعه (ص) عن فرضها إلا في قراءة دقيقة للآية الكريمة في فرض الجزية. فمن أنعم النظر فيها وجد انه تعالى ذكر قتال أهل الكتاب في حالات معينة حددتها الآية وهي: من كانوا منهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق. إلا أننا لا يمكن أن نقرأ هذه الاية دون أن نكون محكومين بحكمهم الأزلي في النهي عن العدوان في قوله تعالى "ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين". فيكون خلاصة كل ذلك هو أنه تعالى خاطب المسلمين في انكم ستدعون لقتال قوم من أهل الكتاب يعتدون عليكم، وهم سوف يعتدون عليكم لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... فمن كان من أهل الكتاب مؤمناً بالله واليوم الآخر فإنه لن يعتدي عليكم فلا يتوجب عليكم مقاتلته " لَيْسُوا۟ سَوَآءًۭ ۗ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌۭ قَآئِمَةٌۭ يَتْلُونَ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ". فإذا لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر فسوف يعتدون ويومها تجب مقاتلتهم حتى يخضعوا بدفع الضريبة...وهكذا يجب أن يكون سبب عدم فرض الرسول (ص) للجزية على يهود المدينة في أنه لم يجد منهم قتالاً ولا كفراً بالله واليوم الآخر إذ انه لو وجد ذلك منهم ولم يفرض عليهم الجزية فيكون قد عصى ربه، وحاشاه ان يفعل ذلك إذ انه آخر من يمكن أن يعصي الله في أي شيء!

مما تقدم يتضح أن فرض الجزية على أهل الكتاب ليس أمراً طبيعياً ولا تلقائياً يتحقق على كل ذمي لم يسلم، بل يجب أن تتحقق شروط الآية الكريمة السابقة لفرض الجزية فإذا لم تتحقق تلك الشروط فلا يجوز فرضها ..

ويبدو مما تقدم أن الخيارات الثلاثة ليست من الدين في شيء فلا هي من الكتاب الكريم ولا هي سنة النبي الأكرم (ص) ولا ينفع أن يقول من يقول بأنه سمع رسول الله يدعو لأخذ الجزية من أهل الكتاب لأن اي قول كهذا لا تسنده الوقائع لا يتجاوز حد التأويل المصطنع وحتى الإفتراء... فلو ان الرسول الأمي (ص) أراد فرض الجزية على كل أهل الكتاب الذين لم يسلموا لفعل ذلك في حياته وحيث إنه لم يفعل ذلك فلا يحق لأحد من بعده أن يفعله ويدعي أنه أمر من الله.. أي ان من يفعل ذلك بسبب السياسة التي تقتضيها أمور الدولة جاز له ذلك ولكن ليس له أن يقول انه من الإسلام الذي جاء به النبي (ص) وأمر به رب العزة!

وأعلم أن أكثر من شخص سوف يثير سؤالاً يدور على كثير من الألسن: كيف كان للإسلام أن ينتشر لو لم يقع الغزو للأرض خارج الجزيرة بدءً من الشام والعراق مروراً بإيران وتركيا والهند وشمال أفريقيا حتى أسبانيا؟ والجواب على هذا السؤال له بابان غيبي وواقعي.... فالغيبي يقول انه تعالى إذا شاء للإسلام أن ينتشر فإنه كان سينشره سواء أوقع الغزو أم لم يقع. فقد إنتشرت النصرانية في مساحة أوسع من الإسلام بحروب أقل.. أما الجواب الواقعي فهو قائم أمام أعيننا ذلك لأن الناس الذين اعتنقوا الإسلام دون حرب أكثر من الذين اعتنقوه بحرب. فالمسلمون اليوم خارج الأرض التي غزيت بالسلاح أكثر عدداً من مسلمي الأرض التي احتلت بقوة السيف... فاندونيسيا على سبيل المثال، وهي اكبر دولة إسلامية عدداً، أسلمت وظلت على إسلامها دون أن يطأها جندي مسلم... أما أسبانيا فرغم أن المسلمين استوطنوها لثماني مائة سنة إلا أنهم حين أخرجوا منها لم يتركوا فيها بيتاً مسلماً واحدا حتى من باب التقية!

وهكذا نجد أن الغزو الإسلامي خارج جزيرة العرب كان عملاً سياسياً قبل كل شيء، وقد يكون خدم الإسلام لكنه لم يكن بأمر الله ولا مهتدياً بسيرة نبيه (ص).. فإذا كان الأمر كذلك فلا بد من التساؤل ترى هل أن كل من قتل من أهل الكتاب أثناء حرب الشام والعراق كان ممن وصفهم رب العزة بمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر ولم يحرم ما حرم الله ورسوله، وكيف تم التأكد من ذلك قبل قتله؟ فإذا لم يكن المقتول من أهل الكتاب كما وصفه رب العزة فكيف جاز قتله باسم الإسلام؟ الا يكون قتله في هذا الحال ظلماً؟

إن غزو الشام والعراق وإبتداع خيارات الإسلام أو الجزية أو القتل ليست في ذاتها فقط مهمة وخطيرة لكنها تغدو أكثر أهمية وخطورة إذا ما ايقنا أنها أصبحت شريعة الإسلام منذ ذلك اليوم وحتى عصرنا هذا... فقد أعطى الفقهاء أنفسهم سلطة جعلها قواعد شرعية فأصبح قتل غير المسلم شرعاً وأصبح قتل المسلم المرتد شرعاً وأصبح فرض الجزية على أهل الكتاب شرعاً... وهذه ككثير غيرها مما أصبح يسمى الشريعة الإسلامية تفتقد لقواعد قرآنية يمكن لها أن تقوم عليها.. إلا أن الفقهاء أولوها بعدة وسائل فمنهم من أحتج بسيرة صحابي وأوَّلَ أن هذا الصحابي لا بد أن يكون مصيباً ومنهم من قاس رغم كل محاذير القياس فقد قاس إبليس وأخطأ ودخل النار، ومنهم من إجتهد والمجتهد قد يصيب أو يخطئ! وليس عندي أي اعتراض في أي من هذا فلست ضد الإسترشاد بسلوك الصحابة ولست ضد قياس الفقيه ولست ضد إجتهاد العالم، لكني ضد من يدعي أن هذه شريعة الله ويقدمها للمسلمين على أنها كذلك.. ذلك لأنها من صنع الناس ويجب أن تقدم كذلك... وقد تتطابق مع شريعة الله، والتي لا يعلمها إلا هو، وقد لا تتطابق ولكننا لا نعرف دوماً جوهر ولا علة شريعته فلا يصح أن ندعي ما نجهل!

وقد ترتب على هذا الغسيل لأدمغة المسلمين أن الناس قبلوا وسلموا بأن ما جاء به الفقهاء هو من عند الله وما هو من عند الله..

فلا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي وجدت فيها نفسي مشدوهاً وأنا اسمع متعلماً مسلماً وهو يصر على أن في القرآن آية تقول ( والشيخ الزاني والعجوز الزانية فارجموهما..)، فإذا كان المتعلم العربي، والذي بطبيعته لا يمكن أن يقر أنه يجهل في أي شيء وإن كان يجهل في أغلب الأمور، إذا كان هذا المتعلم العربي صدق بالممارسات التي ابتدعها المسلمون على أنها شريعة الله رغم نص الكتاب الكريم خلافها، دون أن يكلف نفسه مشقة أن يبحث مصادر الكتاب وهو بين يديه، فما حال المسلم الذي لا يحسن الكتابة والقراءة؟ وكيف أثرت المبادئ التي وضعها الفقهاء والمؤرخون على أنها شريعة سماوية على صياغة الفكر الإسلامي لأربعة عشر قرناً.

وسوف نعرض في الحلقة القادمة، إن شاء الله، قبل الإنتقال لتدويل ثقافة القتل خارج أرض العرب، للدور الذي لعبته الشريعة الموضوعة في بناء الفكر الإسلامي القابل لذلك..

قل لا اسالكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ان الله غفور شكور.

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

13 كانون الثاني 2014

12 ربيع الأول 1435

www.haqalani.com

=================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة التاسعة

لم يرد الفعل "فقه" ولا أي من اشتقاقاته سوى مرة واحدة في الكتاب الكريم وذلك في قوله تعالى "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ". إلا أنه رغم ذلك فقد ولدت أجيال من الفقهاء في القرون التي تلت التصريح بالقرآن، ولم يكن ذلك لأن أولاء إنكبوا على التفقه بالدين كما كلف تعالى وإنما انصرفوا في الحقيقة للتفقه في أمور الدنيا وأمور الدولة وذلك لحاجة الأخيرة والحاكم لقواعد جديدة. فلم تصلنا كتب أو رسائل للتفقه في قوله تعالى "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" حتى نفهم علة الخلق، ولم يصلنا تفقه في قوله تعالى "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار" ولم يصلنا فقه في قوله "ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ وَمِنَ ٱلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا" لنعرف علة خلقه لسبع سموات وسبع ارضين وأين هي. ولم يصل تفقه في سبب معصية إبليس ومن اين تعلم إبليس القياس وحده حين قال بقية الملائكة "قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" ولم يصلنا فقه في نهيه تعالى عن السؤال عن الروح "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" ولم يكتب فقيه واحد في الفرق بين النفس والروح حتى أكاد أقول أن ما من فقيه عرف أن بينهما فرقاً! لكن الذي وصلنا رسائل في "طقوس" العبادات والنكاح والبيوع وهي كلها من أمور الدنيا. وليس هناك من عيب في أن توضع قواعد تنظم حياة الناس لكنها تظل كذلك أي تنظم أمور الدنيا وليس أمور الدين. فإذا كان الأمر كذلك فلماذا سمي هؤلاء القوم بالفقهاء حين اشترط تعالى على الفقهاء أن يتفقهوا في الدين وهؤلاء تفقهوا في الدنيا؟

وقد يقول قائل كما تعودنا أن نسمع ونقرأ بأن الإسلام يختلف عن باقي الأديان في أنه دين ودنيا... والحقيقة إن هذا القول يناقض حقائق الأشياء كما جعلها الخلاق العظيم. فالدين ثابت والدنيا متحركة.. ولا يمكن للإسلام أن يجمع الثابت والمتحرك.. فأوقات الصلاة ثابتة لا تتغير بتغير الدنيا لكن عقد صفقة للبيع تغيرت بين عهد ابي حنيفة واليوم فقد زالت شروط الصفقة التي وضعت ذلك اليوم وأصبح اليوم مقبولاً أن تتم الصفقة على شبكة المعلومات أو بالبريد الإلكتروني فتغيرت قواعد أمور الدنيا ولم تتغير قواعد أمور الدين... وقد قال عز من قائل "كل يوم هو في شأن" ، وذلك ولا شك في شأن من أمرنا الدنيوي وليس من أمره فهو كان وما زال لم يتغير ولم يزل ولم ينتقل من حال إلى حال!

ولكي يضع أولئك الفقهاء إطاراً لقواعد السياسة فإنهم إستعاروا لفظاً قرآنياً آخر ليضفوا على أفكارهم صبغة الدين وأمر السماء. فأسموا قواعدهم شريعة ثم اضافوا لها الإسلام فأصبحت "الشريعة الإسلامية" مما اصبح يعني أنها الشريعة التي جاء بها الإسلام... وقد يكون بعض ما فيها متفقاً مع الإسلام لكن من العسير الجزم بأن كل ما وضعه الفقهاء وانتهجه الخلفاء هو شريعة الله كما أرادها... فلو أن الأمر كذلك لأكل المسلمون اليوم كما وصف تعالى:"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا۟ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا۟ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌۭ مُّقْتَصِدَةٌۭ ۖ وَكَثِيرٌۭ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ."

فمن أين جاء الفقهاء بلفظة الشريعة التي أصبحت تعني حكم الله في أرضه؟ فلو عدنا للكتاب الكريم وهو المصدر الأول والفيصل في الإسلام، لوجدنا الفعل "شرع" وما اشتق منه جاء كما يلي:

"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون"

"شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب"

"ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله".

"ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون".

فأي قارئ لهذه الآيات الكريمة يقدر أن يقول أنه تعالى أراد في أي منها أن يشير لأمور الدنيا في الشريعة؟ أليست جميعها تربط الشريعة بأمور الدين والدين وحده؟ أليس إستعمال الفقهاء لفظة "الشريعة الإسلامية" في أمور الدنيا إقحام غير صحيح للفظ القرآني من أجل تصوير سياساتهم على أنها من شرع الله وليس لله تعالى علاقة بما قرروه أو لم يقرروه في أمور الدنيا؟

فليس هناك شك في أن قيام الدولة الإسلامية الجديدة تطلب وضع سياسات لإدارتها وليس عسيراً فهم الحاجة لإخضاع الناس لها، وليس صعباً فهم الطريق السهل لعمل ذلك ألا وهو الإدعاء بأن كل ما يقرره الخليفة ويؤيده الفقهاء هو من شرع الله... والناس ما كانت لتعارض شرع الله. وهكذا ولدت قواعد الإرهاب الفكري في الإسلام! فقد أصبحت كل سياسة تسمى "شريعة" ملزمة واصبح كل خروج عنها ردة عن الدين، وليس عسيراً تقدير هذا السلاح القوي بيد الحاكم، أي حاكم كان! وما زال هذا الإرهاب الفكري مستفحلاً بين المسلمين وإن كان قد اتخذ اشكالاً مختلفة قد نعرض لبعضها لاحقاً.

ولم يكن غائباً عن الحاكم والفقيه الذي يدعمه إحتمال الطعن بالسياسات، فكان لابد من إيجاد سند لها. لكن الفقهاء وجدوا الكتاب الكريم ضيقاً في هذا الأمر بل مقيداً لهم في بعض الأحوال. فعمدوا للإستناد الى الحديث الشريف. فنشأت صنعة جمع الحديث وتصدى لها "المولدون" قبل العرب.. وقد يسأل سائل وما العيب في ذلك؟ والجواب هو أن جهل المولدين بالعربية نتجت عنه مشاكل في روايات بعض الأحاديث والتي أثقلت كتب العربية حيث لم يجرؤ أحد من علماء اللغة بالطعن بتلك الأحاديث خشية أن يتهم بالخروج عن الملة فأتعبهم البحث في إيجاد التفسير. بينما كانت الشجاعة تقضي أن يصرحوا بكل بساطة أن الحديث مختلق ولم يقله الرسول الأكرم (ص) فإما هو من نقل جاهل أو من جمع "مولد" لا يحسن العربية.  وشاهد ذلك أن علماء النحو كـأبي عمرو بن العلاء، والخليل، وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين لم يستشهدوا كثيرا بالحديث المروي عن النبي الأكرم (ص) وذلك لعلمهم أنه مروي عن "مولدين" وأن نقله غير دقيق لأنه سماع عن سماع في أغلب حال. بيما استدل أئمة النحو على قواعدهم بالكتاب الكريم وبشعر العرب. ولا يصح الرد على ذلك، كما فعل البعض، بأن عجمة الرجل ليس مثلبة، بحجة أن سيبويه كان فارسياً، ذلك لأن الأصل في الأعجمي أن يجد صعوبة بالحس بلسان العرب وفهم المتشابه فيه فإذا شذ عن ذلك عدد من الناس فذلك الشذوذ الذي يثبت القاعدة، وهو مصداق قوله (ص) "لو كان العلم في الثريا لأدركه رجل من فارس" لكن هذا أمر آخر. وقد كتب أحد المتأخرين:" كان للنحاة الأوائل موقف غريب من الاحتجاج بالحديث النبوي الشريف ، فهم لم يكلفوا أنفسهم مجرد نقاش الأمر أو التصريح بقبوله أو حتى رده ، بل إن الأحاديث التي ثبت أنهم احتجوا بها نراهم قد أوردوها على استحياء و إقلال من غير أن يصرحوا أو يتثبتوا في بعض الأحيان ، وعن هذا يقول الشاطبي:" لم نجد أحدا من النحويين استشهد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، و هم يستشهدون بكلام أجلاف العرب و سفهائهم الذين يبولون على أعقابهم، و أشعارهم التي فيها الفحش و الخنا و يتركون الأحاديث الصحيحة؛ لأنها تنقل بالمعنى و تختلف رواياتها و ألفاظها بخلاف كلام العرب و شعرهم فإن رواته اعتنوا بألفاظه لما يبنى عليها من النحو و لو وقفت على اجتهادهم قضيت منه العجب".

وليت الأمر توقف عند كلمة مفتراة أو حديث فيه كلمة خاطئة.. فلو كانت تلك كل المشكلة لهان الأمر. لكن الأمر ذهب أبعد من ذلك فحين اصبح مقبولاً الإفتراء عليه وضعت أحاديث تخالف القرآن وحكمه من أجل تسويغ سياسات تعارض النص القرآني، ولعمري لا أدري كيف أجاز "الفقهاء" لأنفسهم هذا وهم يعلمون أن نبي الرحمة (ص) ما كان ليتقول على مولاه... ودعونا نأخذ مثالاً على ذلك في موضوع الزنا ورجم الزانية...

فقد نص تعالى في كتابه الكريم على عقوبة الزنا في آيتين وهما:

"الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تاخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين".

"واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن اربعة منكم فان شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت او يجعل الله لهن سبيلا".

فلم يضف تعالى لهاتين العقوبيتن شيئاً ولو أراد أن يفعل ذلك لفعل وما لنا عليه من سلطان. فعقوبة الزنا إما مائة جلدة أو الحبس في البيت حتى الموت أو الطلاق. وقد قال الفقهاء إن العقوبة الأولى لغير المحصنة بينما العقوبة الثانية للمحصنة، ولو قبلنا، دون جدل،  ذلك التفسير لتبين أن العقوبة في أقسى حال هي التعزير بينما هي الحبس في البيت للمحصنة.

لكننا نعلم أن الجاهلية الأولى لم تكن قد زالت من قلوب العرب بعد، فما أن رحل الرسول الأكرم (ص) حتى أراد القوم أن يعودوا بالمرأة للجاهلية التي أخرجها النبي الأكرم (ص) منها فكانوا كما قال تعالى: "وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ ". فقرروا أن يعودوا للجاهلية رغم أنه تعالى نهى عن حكم الجاهلية فقال "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ".

وقد أخبرنا محمود شكري الألوسي في ما نقل عن تأريخ العرب قبل الإسلام:

"ومن عقوباتهم وحدودهم قتل الزاني - والزنا كان عندهم من أعظم المنكرات وأفظع المعاصي وأشنعها، فلذلك جعلوا عقوبته إزهاق الروح والقتل الذي هو أعظم الحدود، ومن شواهد ذلك ما كان من النعمان بن المنذر من قتل المتجردة والمنخل العبدي لما اطلع على ما كان من أمرهما، وأراد قتل النابغة الذبياني لما تعرض في قصيدته الدالية المشهورة لوصف حرمه."

لذا فقد عاد القوم للجاهلية فقرروا قتل المرأة إذا زنت رغم أنه تعالى حكم حكماً آخر في الزنا. فكيف يجدون لذلك مخرجاً وهم يعرفون أنهم ينقضون القرآن فقال أحدهم إنه قرأ آية في سورة براءة تقضي برجم الزانية، ولم تكن آية كهذه لا في سورة براءة ولا في غيرها لكنها كانت من عنده هو..ثم إدعوا أن الرسول قضى بالرجم متمماً بذلك حكم الله محتجين بقوله "وما آتاكم الرسول فخذوه".

لكنهم في غمرة تلك الجاهلية أغفلوا أمرين مهمين، أولهما أن رسول الرحمة (ص) لا يتقول على مولاه وثانيهما ان الوحي، كما يقولون، كان مستمراً حتى قبض (ص) فلماذا لم يقض تعالى بنسخ الجلد والحبس بالرجم قبل أن يقبض نبيه؟ وقد سبق أن بينا أن قتل النفس من أكبر الكبائر عند الله حتى أنه جعلها في غير حق كمن قتل الناس جميعاً. فهل يعقل أن من جعلها بهذه الخطورة يمكن أن يغفل على النص بحكمها في حالة آخرى غير قتل النفس أو الفساد في الأرض؟

ولعمري لا أدري ما لهؤلاء الناس، "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"، فكيف فات عليهم قوله تعالى وهو يحدد درجات الإثم التي حذر منه المؤمنات حين جئن يبايعن النبي الأكرم (ص) في قوله: "يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".

فجعل الشرك به أعلى الآثام درجة ثم أعقبه بالسرقة ثم جاء بالزنى ثالثاً، فقدم السرقة على الزنا ولو كان الزنا أعلى درجة في الإثم لقدمه على السرقة ولجعل عقوبته قطع الرأس كما جعل عقوبة السرقة قطع اليدين. لكنه تعالى لم يفعل لأن السرقة أعظم خطراً عنده من الزنا وسبب ذلك كما سبق وبينت هو أن السرقة فيها ضرر عام مما يوجب عقوبتها بشدة أما الزنا فضرره خاص مما يجعل عقوبته أقل درجة!

ولم يكتف الفقهاء وجامعوا الحديث بما فعلوا حين افتروا على النبي الأكرم فجاؤوا بحكاية تشبه حكايات ألف ليلة وليلة وزعموا أنها من السيرة النبوية. فكتبوا عن إمرأة جاءت الرسول الأكرم (ص) وشهدت أنها قد زنت وأنها حملت من ذلك سفاحاً فاخبرها النبي (ص) أن تضع أولاً وحين وضعت وجاءته أخبرها أن تذهب وترضع وليدها حتى الفطام.... وخلاصة الحكاية أن تلك الزانية إنتظرت ثلاث سنوات قبل أن يأمر النبي (ص) برجمها، كما يزعمون. فكيف غاب على الفقهاء والرواة خلال هذه القرون تفاهة وإستحالة حدوث هذه الحكاية وسبب ذلك يبدو واضحا من نظرة واحدة عليها... فمن هو الراوي الذي كان يجالس رسول الله (ص) في كل يوم خلال السنوات الثلاث  حتى يصدف أن يكون حاضراً كل مرة جاءت فيها تلك المرأة المزعومة فينقل لنا هذا الخبر المفترى؟ أليس منكم رجل رشيد!

ولا بد قبل أن ننتهي من قصة الرجم واختلاقها خلافاً لحكم الله من ذكر إحدى فضائح رواية الحديث. فقد وجد الفقهاء حديثاً نسب للنبي الأكرم (ص) ونصه: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، فجعلوه دليلهم على أن الرسول (ص) أمر بقتل العاهر برميها بالحجر مما يؤيد زعمهم أنه (ص) أضاف عقوبة الرجم لأن مولاه كان قد أغفلها. ولو تأمل الفقهاء في الحديث لوجدوا فيه عيبين، أولهما، أنه ما ورد عن النبي الأكرم (ص) وهو صاحب الخلق العظيم قط حديث فيه عبارة بهذه الفظاظة مثل كلمة "الحَجَر"، وثانيهما وهو المهم هنا هو أنهم لو تدبروا الحديث وجمعوه مع النص القرآني لوجدوا أن أصل الحديث هو "الولد للفراش وللعاهر الحَجْرُ"، وليس "الحَجَرُ". و"الحَجْرُ" هو الحبس في البيت فقد عرفت العرب "الحَجْر" كما جاء في مقاييس اللغة " الحاء والجيم والراء أصل واحد مطَّرد، وهو المنْع والإحاطة على الشيء. فالحَجْر حَجْر الإنسان، وقد تكسر حاؤه" وهو ما نص عليه تعالى في الكتاب في قوله "فأمسكونهم في البيوت حتى يتوفاهن الموت..". وهكذا يتبين أن ما قاله نبي الرحمة (ص) لا يختلف عما أمر به مولاه. أما سبب الخلط بين "الحَجَر" و "الَحَجْر" فليس عسيراً فهمه إذا كان الحديث قد دون في فترة ما لم تكن حركات الكتابة قد عرفت بعد ونقله أحد "المولدين" الجاهلين بالعربية فاختلط عليه اللفظان وضاعت الحقيقة.... وقد يكون لجامع الحديث أو ناقله عذره لكن ما هي حجة الفقهاء وأين هم من أمر الله بالتفقه والتفكر قبل الإسراع بالإفتاء بقتل الناس؟

وقد أجاد أبو العلاء المعري حين قال:

عجبت لكسرى وأشياعه *    وغسل الوجوه ببول البقر 

وقول النصارى اله يضـــام * ويظلــم حيـــا ولا ينتصــر 

 وقوم أتوا من أقاصي البلاد * لرمي الجمار ولثم الحجر 

 فواعجبا من مقالاتهــــــم *  أيعمى عن الحق كل البشر!!

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

 28 كانون الثاني 2014

www.haqalani.com

===================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة العاشرة

لا بد أن نذكـّر أنفسنا أن هدف الكتابة في هذا الموضوع هو محاولة معرفة أصل ثقافة القتل في الإسلام، كيف نشأت وكيف تمكنت من عقول المسلمين حتى أصبح من المقبول أن يقف خطيب المسجد ليحدث الناس عن مجد القتل في سبيل الله كما يدعي. وقد تقودنا معرفة هذه الحقائق إلى إعادة النظر في ثقافتنا الموروثة من أجل تصحيح فهم التأريخ... ذلك لأنه بدون ذلك لن يكون لنا موقع قدم في العالم وسوف نبقى في موقعنا حين يسير الأخرون قدماً إن لم نقل نرجع للخلف وهذا هو عين التخلف!

وقد إنتهينا في الحلقة السابقة الى حقيقة بروز طبقة ممن سموا فقهاء كتبوا في أمور الدنيا أكثر من أمور الدين لكنهم تمكنوا من الهيمنة على عقول الناس واسترهبوهم حتى أنه لم يجرؤ مسلم أن يسأل في أمر لم يقره أولئك الفقهاء خوفاً من أن يتهم بالزندقة أو الكفر... وهذا يفسر سبب تخلف العقل الإسلامي عن إنتاج أي فكر مستقل. فرغم أن المسلمين قدموا الكثير في مجالات الطب والعلم خصوصاً في الرياضيات والبصريات إلا أنه لم يخرج من بين المسلمين فكر فلسفي يمكن أن يوضع في مصاف الفلسفات التي أنتجتها شعوب الأرض قبل الإسلام أو بعده. وهذا لم يكن لأن العرب لا يحسنون التفكر وتقليب الأمر، فقد أجادوا في دراسة الفكر الفلسفي اليوناني وشرحوه وعلقوا عليه مطولاً. وقد فعلوا أكثر من ذلك في أنهم حفظوا للبشرية التراث الفلسفي اليوناني ذلك أن الترجمة العربية لذلك التراث هي التي حفظته من الضياع وحين عادت أوربا بعد النهضة لدراسة الفكر اليوناني فإنها اعتمدت النص العربي مرجعاً أصيلاً لفهمه. فمساهمة العربي في شرح الفكر اليوناني والتعليق عليه مؤشر جيد على إمكانية العقل الإسلامي العربي على تقليب الأمور إلا أن سطوة الفقه واستبداد الفقهاء في أنهم أعلم بأمر السماء من غيرهم حجمت بل وأرعبت الناس من الخوض في الفلسفة، وهي أم العلوم، فلم يولد عن الإسلام فيلسوف واحد بفكر عربي إسلامي أصيل.

وتطاول الفقهاء على العبارة القرآنية فاستعملوها كما يشاؤون. فغدا الفتح الرباني غزواً عسكرياً وتمجيداً للقتل والسلب والإغتصاب... وغدا الجهاد يعني حمل السلاح، وكأنهم لم يقرؤا قوله (ص) عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وحين سئل وما الجهاد الأكبر يا رسول الله قال هو جهاد النفس! وغدت الشريعة التي وضعوها هم لخدمة سياسة الدولة أمراً من الله تعالى. وأضحت الوراثة قاعدة الحكم الإسلامي رغم أنهم ما انفكوا يؤكدون أن الحكم في الإسلام شورى! فاي شورى اتبعت في الدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية؟ وأي مسلم سئل في أي  يوم عن رأيه في الخليفة المتسلط على رأسه؟ وكم فقيه خرج على ولي الأمر المستبد وسأله عن تصرفه بمال المسلمين وجبروته بحق أهل الإسلام قبل أن نسأل عن الفقهاء الذي سألوا ولي الأمر عن حقه في غزو الآخرين من غير العرب في عقر دارهم وقتل رجالهم وسرقة أموالهم وإغتصاب نسائهم؟

فأي أمر إلهي في الكتاب العزيز أجاز للمسلمين سرقة أموال الآخرين؟ فإذا كانوا حملة رسالة إلهية فاي رب أجاز لهم السرقة وهي محرمة منذ الأزل؟ فالسرقة حرام سواءً ارتكبت بحق المؤمن أم بحق الكافر. فكيف أصبحت السرقة تعد غنيمة؟ وكيف أصبح حق المقاتل في درع وفرس غريمه في الحرب يفسر على أنه حق مطلق لسرقة كل ما في البلد المستباح من مال وخيرات فجيء بالذهب والمجوهرات إلى دمشق وبغداد وإسطنبول عدواناً وظلماً؟

بل إن وقاحة بعض أدعياء الفقه تجاوزت هذا لحد أنهم أفتوا بأن أنفس وأموال وأعراض بعض فرق المسلمين المختلفة معهم حلال لهم ولأتباعهم، كما فعل إبن تيمية! فهو الذي أسس لما لحق من ثقافة التكفير والتي سادت مؤخراً لأنه ومن على شاكلته لم يقرؤوا قوله تعالى: "أهم يقسمون رحمة ربك."

ثم استبدوا أبعد من ذلك فقالوا إن باب الإجتهاد أغلق ولم يعد بمقدور أحد أن يجتهد بعدهم... فأغلقوا عقول الناس على أفكار عمرها سبعة قرون. وهل يعقل أن رب العزة الذي حدثنا عن الكون أنه "كل يوم هو في شان" أجاز لهم أن يوقفوه متى شاؤوا؟ ويفسر هذا سبب قناعة بعض الجهلة من "فقهاء" الوهابيين اليوم أن الأرض مسطحة وانها لا تدور وأن الشمس تدخل في بحر القدرة كل ليلة وأن رب العزة ينزل كل ليلة إلى سمائهم التافهة ثم يصعد عند الصبح بعد أن يكتفي ليلاً من وجوهههم البائسة!

ثم إنقضى العصر العباسي وسقطت بغداد بسبب الفساد السياسي الذي أسس له الخليفة الفاسق المعتصم بن هارون الرشيد حين جاء بالترك ليفسدوا في الدولة ويحولوا سامراء إلى مبغى كبير تعبث به الجواري والغلمان! ودخل العرب في غيبوبة دول الطوائف وتوقف الفكر تماماً. ثم طلعت علينا بدعة دولة العثمانيين الجهلة الذي ادعوا حرصهم على الإسلام رغم أنهم لم يعرفوا من الدين إلا إسمه ومن القرآن إلا رسمه.. وقد سبق لي أن كتبت عن قناعتي بان من لا يستعرب لا يمكن له أن يكون مسلماً ذلك لأن الإسلام عربي ومن لا يعرف العربية لا شأن له بالإسلام فهو ليس غطاءً ولا منة بل هو عهد بين الله والعرب كما كانت التوراة عهداً بين الله والعبرانيين.

وأنتج الجهل التركي ظاهرة جديدة في الإسلام فقد اصبح مفتي إسطنبول، وهو خادم الخليفة، أعلى سلطة في الإسلام رغم جهله بالعربية في أغلب الأحيان... فإذا أدركنا أن العقل التركي منذ نشأ حتى اليوم لم يقدم لنا مساهمة واحدة في الفكر الإنساني أو في العلوم عامة ولو من قبيل المقاربة لما قدمته بغداد، فإننا نقدر على أن نفهم ما فعله المفتي العثماني بالإسلام وكيف أنه اصبح أداة للخليفة ليفتي له في فتح أوربا وسرقة مالها وإغتصاب نسائها  والعدوان على المسلمين عامة وفرض اللغة التركية الساذجة والمحدودة المفردات أداة للتعليم... وربما يفهم القارئ ما يشعر به بعض الأوربيين تجاه الإسلام.. وإذا لم يفهم ذلك فليقرأ ما فعله العثمانيون بأهل صربيا وبالأرمن على سبيل المثال دون أن نتوسع.... وحين يفعل ذلك سوف يدرك أن شعور الأوربي نحو الإسلام وما يمثله له أسبابه المسوغة.. فقد أعطى العثمانيون صورة قبيحة للإسلام في غزوهم المستمر لأوربا.. وحتى نفهم كيف تأصلت ثقافة القتل في العصر العثماني يكفي أن نتذكر أن ما من خليفة عثماني إلا وقتل أحد أبنائه أو إخوانه أو أقاربه من أجل تأمين إنتقال للسلطة على وفق ما يرتأيه. فإذا كان الخليفة يجيز باسم الإسلام قتل أهل بيته فكيف حال الغرباء من أهل الأرض على يده؟ 

وحين خفف الله عن العرب في أنه إزاح عنهم الطغيان العثماني فإنهم أكتشفوا أنفسهم في فراغ كامل.. فهم لم يجدوا أنفسهم في فراغ فكري فحسب بل إنهم وجدوا أنفسهم دون لغة ذلك لأن سياسة التتريك، التي إنتهجها "الحريصون" على الإسلام كما ادعوا، خلفت أجيالاً من الأمية بين العرب وأحسن متعلم فيهم كان يجيد فقط اللغة التركية والتي لم تنفع يوماً في شيء. وهناك سببان أبقيا على العربية لا يمكن للمتابع إلا يشهد بفضلهما ولولاهما لضاعت العربية إلى الأبد. أولهما مدارس القرآن في المساجد و"الكتاتيب"، وثانيهما النهضة اللغوية التي أسسها النصارى العرب بشكل عام ونصارى بلاد الشام بشكل خاص. ولعل أحد أسباب ضعف العربية وتفشي العجمة اليوم هو أن تسعين عاماً منذ زوال الحكم العثماني ليست كافية لكي تستعيد فيها العربية عافيتها!

ولعل مما غاب عن أذهان أغلب الناس أن جزيرة العرب لم تشهد أية نهضة منذ إنتهاء دورة الخلفاء الراشدين وإنتقال الخلافة للعراق ثم للشام ثم للعراق...بل إن الحقيقة الأدهى هي أن جزيرة العرب، والتي لم تعرف يوماً بالدولة المحمدية أو البكرية أو العمرية أو العثمانية والتي تسمى اليوم بالمملكة السعودية، دخلت في عصر من التخلف المميت ولم تخرج منه حتى اليوم. وهذا ليس غريباً إذا ما نظرنا نظرة فاحصة لطبيعة الجزيرة وسكانها.

ذلك لأن الأعراب الذين يشكلون أعلى نسبة لسكان جزيرة العرب لم يدخلوا الإسلام صدقاً سوى قليل منهم. وأظهر أكثرهم الإسلام رياءً.. وهذا كان حالهم يوم ظهر بينهم النور المحمدي فكيف حالهم بعد ألف عام؟ ولا أقول هذا متجنياً عليهم وإنما هو فهمي للإرادة الإلهية التي ثبتت في القرآن والحديث. فقد لعن تعالى في كتابه الكريم ثلاث فئات وخصهم بالإسم وهم المشركون والكفار والأعراب! وما إرتفعت اللعنة عن أي منهم. فقال في الأعراب:

" الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "

"وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ"

"إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا".

فيكون قد حكم عز وجل بكفر الأعراب ونفاقهم مطلقاً. وحين إستثنى منهم من إستثناه من الكفر والنفاق فإنه إستعمل كلمة "من" وهي للتقليل في قوله:

"وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"

وهكذا يكون حكمه أزلاً ليس فقط في ضلالتهم ولكن في منعهم أن يعرفوا حدود الدين. ولعل من الواجب التوقف عند هذه الحقيقة ذلك لأنه تعالى عرض الإسلام على أهل الكتاب ولم يمنع نبيه الأكرم (ص) أن يحجب عنهم حدود الإسلام لكنه منعه (ص) من أن يطلع الأعراب على حدود الدين. فهل هناك لعنة أكبر من ذلك؟

ولم يرد في السيرة النبوية أن كثيراً من الأعراب أسلموا على يده. بل إن حادثة واحدة رواها أبو هريرة تثبت ما قلته باليقين. فقد روى أبو هريرة في حديث طويل أنه استضاف إعرابياً لثلاثة أيام وحين إنصرف سأله النبي الأكرم (ص) أتعرف من كان ذلك الأعرابي ولما أنكر ابو هريرة معرفته أخبره الرسول الأعظم (ص) أنه كان إبليس جاء ليعلم أبا هريرة القرآن. فاي شاهد أكبر من ذلك أن يظهر تعالى إبليس على شكل إعرابي لكي يعطي الأعراب صفة اللعنة الأبدية؟ وكتب اللغة والأدب تعج بالشواهد على جهل الأعراب بالقرآن أو حتى عدم قراءته، ولا يتسع المكان هنا لذكر تلك الشواهد إنما تغني واحدة منها لدلالة على ذلك. فقد نقل عن الأصمعي أنه قال:

"كنت أقرأ "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم". وكان بجانبي أعرابي فقال: كلام من هذا. فقلت: كلام الله. قال: أعدت فأعدت. فقال" ليس هذا كلام الله. فانتبهت فقرأت "والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم". فقال: أصبت. فقلت: تقرأ القرآن. قال: لا. فقلت: فمن أين علمت؟ فقال: ياهذا عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع."

فهذا مثال من العصر العباسي الذي إنتشر فيه الإسلام لأعرابي يتقن لسان العرب فيصحح بالسليقة لحن أحد علماء العربية في بغداد، لكنه في الوقت نفسه لا يقرأ القرآن.... هكذا كانوا وهكذا ظلوا!

أعرف أن هناك من قد ينتفض ليقول إن ذلك كان في زمن النبي الأكرم (ص) وأن الأعراب دخلوا الإسلام بعد ذلك وصلح إسلامهم ... لكن من يقول قولاً كهذا يصور القرآن وكأنه كتاب تأريخ يحدثنا عن حدث نسخه الزمن ولم يعد له حكم. وهو بهذا أجهل من الجهل! لأن القرآن ليس كتاب تأريخ وما فيه واقع أزلاً وأبداً فمن لعن فيه فهو ملعون أبداً بحكم كون القرآن كلام الله وكلام الله لايقع عليه انتقال ولا حدوث ولا نسخ ولا زوال أثر...وقد كتب على نفسه الرحمة أن يعفو إذا شاء وأن يعذب متى شاء وحين قرر أن الأعراب اشد كفراً ونفاقاً فقد قضى بضلالتهم "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ"، ولا مرد لهذا الحكم!

ثم جاءت أول موجة من الإستعمار الأوربي لأرضنا بما عرف لاحقاً بالموجة الصليبية حين استوطن الأوربيون بلاد الشام بحجة أنهم يدافعون عن الصليب. ولم تكن تلك سوى حجة لجأ إليها الكبار والمنتفعون من بابا الفاتيكان إلى أمراء وملوك الدويلات الأوربية. وهي الحجة ذاتها لتي لجأ لها الخلفاء المسلمون والقادة في استباحة الأرض بحجة نشر الإسلام. فإحتلال بلاد الشام من قبل الأوربيين بحجة الدفاع عن الصليب وإستعادة مولد السيد المسيح، وهم لا علاقة لهم به حيث إنه كان وما زال إبننا، لا تختلف كثيراً عن حجة المسلمين لاستباحة إسبانيا بحجة نشر الإسلام! لكن أوربا لم تكن بعد قد وصلت لمرحلة النضج والتطور السياسي والعلمي لكي تتمكن من فرض هيمنتها في عصورها المظلمة فكرياً وإن كان العرب في ذلك الوقت في طريقهم للسقوط الفكري والسياسي كذلك. فانهارت الدولة الأوربية الإستعمارية في أرض العرب وخرجوا منها قبل ان يعودوا بعد قرون لكن بحجة الحضارة والديموقراطية وهي حجج لا تقل ضعفاً عن سابقتها في حماية الصليب.

لكنهم فكروا ملياً هذه المرة وأعدوا لها عدة أصلب في قواعدها.. فقد درسوا الإسلام وعرفوا أثر الفقه في الهيمنة على عقول المسلمين. فوجدوا أن الهيمنة على المنطقة يجب أن تتم من خلال الإسلام وإن التحكم بالإسلام يجب أن يتم من خلال جزيرة العرب حيث يعتقد أغلب المسلمين أنها أرض الوحي ولن يقع فيها خلل. لكن إحتلال جزيرة العرب من قبل الأوربيين النصارى قد يكون من المحرمات التي يصعب تصور وقوعها في القرن الثامن عشر.

إلا أنه لم يغب عن المستشرقين، الذين درسوا الإسلام دراسة أعمق حتى من المسلمين، أن سكان جزيرة العرب من الأعراب هم أقل الناس معرفة وتمسكاً بل حتى إهتماماً بالإسلام. فكان لابد من طريق يمكنهم من الإستحواذ على الأعراب ثم منحهم الدعم لكي يمدوا سيطرتهم على عموم المسلمين. فتفتق الذهن البريطاني عن فكرة قد تكون من أبرع ما جاء به العقل الأوربي لمواجهة الإسلام والعرب خلال ألف عام: فإخترعوا الوهابية!

فجمع المندوب البريطاني في الخليج بين بدوي ساذج يحمل طموح سلطة وبين بدوي لامع يمكن أن يقود فوجدوا في الأول مقدرة واستعداداً بدوياً لعمل أي شيء من أجل السلطة. أما الثاني فقد نقل إلى بريطانيا حيث قضى ست سنوات بين أوكسفورد ولندن وهو يتدرب على أيدي الخبراء الذين لقنوه أمور الدين والدنيا وأعادوه ليعلن صرخته ببعث الإسلام الحنيف مدعياً أنه جاء بالتوحيد لأن الآخرين اشركوا! وليس عسيراً فهم إمكانية أية صرخة في كسب عرب الجزيرة في نهاية القرن الثامن عشر إذا كانت ستبعث فيهم أملاً في الحياة وتعدهم حياة أفضل مما كانوا فيه من البؤس والخيبة...

فشكل المندوب البريطاني حلفاً أصبح من أطول الأحلاف في تأريخ البشرية فقد دام أكثر من مائتي عام، تم بموجبه اقتسام الدولة بين آل سعود لأمور الدنيا وآل الشيخ لأمور الدين. ولم يكن البريطانيون أغبياء ليعتقدوا أن هذا المشروع سيكتسح العالم الإسلامي في غمضة عين لأن الظرف التأريخي لم يكن مهيئاً بعد لقبوله كما ان الدولة العثمانية كانت ما تزال قائمة وقوية بعض الشيء. لكنهم كانوا يخططون للقرون القادمة. ومن أجل ذلك شجعوا أصدقاءهم في القارة الهندية فجاء نفر منهم إلى جزيرة العرب واجتمعوا مع محمد عبد الوهاب ونقلوا عنه المذهب الجديد إلى الشمال الغربي من القارة الهندية حيث ظل المذهب حياً منذ القرن الثامن عشر إلى أن بعث في القرن العشرين حركة طالبان والقاعدة وما شابهها.... وأعتقد أن قليلين من العرب يعرفون هذه الحقيقة عن تفرع الوهابية منذ القرن الثامن عشر لأن البريطانيين حرصوا على جعلها سرية ما أمكن ذلك.

ودعم البريطانيون صنيعتهم الوهابية السعودية بكل ما أمكن في الظرف التأريخي والسياسي القائم. إلا أن حقيقة الفقر القاتل في جزيرة العرب بسبب عدم وجود أي مصدر للمال من تجارة أو صناعة أو ثروة طبيعية أعاق إمكانية الحركة الوهابية من تحقيق تقدم كبير في تنفيذ المشروع الصهيوني القديم الجديد. وتأريخ الحركة الوهابية منذ أسسها البريطانيون حتى إكتشاف النفط موجودة في الكتب وليس في إعادتها اية فائدة. إلا أن إكتشاف النفط غير قواعد اللعبة وأعطاها القوة لكي تتحرك أسرع مما كا يتوقعه خالقوها.

إن ما سأكتب عنه لاحقاً هو دور الحركة الوهابية في بعث ثقافة القتل والتخريب باسم الإسلام منذ إكتشاف النفط وما تزامن مع ذلك من حركات دينية أخرى سنية وشيعية وكيف يعمل كل هذا في حاضر المسلمين اليوم.

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

14 شباط 2014

14 ربيع الثاني 1435

www.haqalani.com

=====================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الحادية عشرة

كنت قد كتبت في الحلقة السابقة كيف تم تأسيس الحركة الوهابية كنواة لمشروع ماسوني صهيوني سبق كل نشاط سياسي في العالم العربي وعاش بعد أن فشلت أكثر المشاريع التي قامت بعده بقرن أو قرنين.. إلا أني ذكرت أن من أسس الحزب الوهابي من ماسونية بريطانيا في عصرها الذهبي كانوا واقعيين في أنهم لم يتوقعوا لذلك الحزب أن يبتلع العالم الإسلامي في غمضة عين لأسباب عدة ليس أقلها خطورة أن الدولة العثمانية كانت ما تزال قوة لا يستهان بها ويجب الحذر من العبث بمناطق نفوذها. كما إن المجيء بمذهب جديد وإن كان يدعي أنه تجديد للحنبلية ليس سهل القبول في عالم بني منذ قرون على توقف الإجتهاد وتعطل العقل الإسلامي عن التفكير!

كما ان جزيرة العرب يوم ولد فيها الحزب الوهابي كانت فقيرة وبائسة مما شكل عبئاً على الإستكبار البريطاني .. إلا أن ذلك كله تغير في ظل تطورين مهمين أولهما إنهيار الدولة العثمانية وإنفتاح المجال أمام الصهيونية العالمية لكي تسرح وتمرح في جزيرة العرب والخليج دون أية مواجهة، وثانيهما إكتشاف خزين النفط الخيالي في المنطقة والذي حولها من عبء إقتصادي إلى مصدر مالي لم يكن الإستكبار الصهيوني حتى ليحلم به!

وأكتب اليوم عن فترة نشاط الوهابية في القرن العشرين بشكل أساس حيث توفر لها المال والمجال لتحقيق جزء من المشروع الصهيوني. لقد شكل خلق الوهابية المشروع الأول في تسخير الإسلام السياسي لأهداف الصهيونية. وآمل أن أتبع بحث دور الوهابية في المشروع الأول بالحديث عن المشروع الثاني المتمثل في خلق حركة الإخوان المسلمين وحزب التحرير الأقل أهمية ثم أنتهي بمشروع خلق القاعدة في الجزء الثالث من المشروع الصهيوني الكبير... ولعله بعد ذلك سيولد مشروع آخر نجهل حتى الآن طبيعته لكن الصهيونية التي علمتنا أنها لا تتوقف عن الإبداع قد تأتي بجديد مادمنا نعيش سباتاً جعل سبات أهل الكهف يبدو متواضعاً!

لكني لا بد أن أبين قبل الإسترسال بأني حين أتحدث عن صهيونية الوهابية والإخوان والقاعدة فإني لا أعني بذلك أن كل من دخل هذه الحركات أو أيدها أو دعمها كان صهيونياً في الإنتماء والإيمان، ذلك لأن أغلب الذين انخرطوا في هذه الحركات كانوا من سذاج المسلمين وهم من الصنف الثالث الذين وصفهم علي بن ابي طالب في قوله "الناس ثلاثة: فعالم رباني.. ومتعلم على سبيل نجاة.. وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لا يستضيئون بنور العلم؛ فيهتدوا، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق؛ فينجوا". وهؤلاء معذرورون في أنهم ساروا أو يسيرون في مشروع لا يعرفون شيئاً عن أهدافه الحقيقة لأنهم يعتقدون بصدق أنهم يخدمون الإسلام الذي تربوا على الإيمان المطلق به.. والإيمان أعمى!

فلا يمكن لأي من قرأ شيئاً عن الإسلام ألا ينتبه لحقيقة أن الرسول الأكرم لم يدخل مكة بجيش فلم يأخذها بقوة بل دخلها مسالماً وعفى عن عتاة المشركين من قريش ليضرب مثلاً للناس بأن هذا البلد يجب أن يظل آمناً.. إلا أن هذه الرغبة المحمدية والتي جسدت الإشارة الألهية بجعلها "حرماً آمناً"  لم تصن على يد المسلمين... فقد قصفها الحجاج بن يوسف الثقفي بالمنجنيق عام 73 للهجرة (692 م) فأحرق أستار الكعبة.. أما القرامطة فلم يكتفوا بخرابها بل انهم سرقوا الحجر الأسود في عام 317  للهجرة 929) م).

وبعد قرون من الهدوء النسبي في جزيرة العرب أعاد الوهابيون العنف والخراب والقتل للبيت العتيق حين دخلها عبد العزيز بن سعود عام 1342 للهجرة (1929 م) بالقوة وبدعم بريطاني وأوقع في أهلها القتل باسم الإسلام...وبسقوط مكة بيد الوهابية والأعراب تحقق الحلم الأول للصهيونية العالمية بالإستحواذ على قاعدة الإسلام العظمى... وكل ما وقع بعدها كان نتيجة لذلك الإنتصار...

فحين تمكن الصهاينة من وضع اليد على البيت العتيق أصبح مفتاح التحكم بالعالم الإسلامي والعربي في أيديهم ذلك لأن غالبية المسلمين يعتقدوون صدقاً أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يسلم بيته الحرام إلا لمؤمنين صادقين وهذا يعني أن كل من يسيطر على مكة لا بد أن يكون صالحاً و مطاعاً. فلو فهموا تفويضه تعالى لإبليس ليعبث في الأرض ما كانوا قد وصلوا لهذه القناعة لكنهم بعيدون عن فهم هذا.  وهذا هو ما كان يعتقده الصهاينة منذ قرون ويطمعون في الوصول إليه وقد فعلوا...

ومن يقرأ تاريخ المنطقة في القرن العشرين قراءة موضوعية بعيدة عن المذهبية والتعصب، إن أمكن ذلك، يجد أنه ما من حدث أو مرحلة سياسية إلا ولعب فيها الوهابيون الصهاينة دوراً أساساً وفاعلاً مستغلين في ذلك ثقلهم الديني أولاً ومال نفطهم ثانياً.... وهذا هو سبب تسميتي لهم بالوهابيين الصهاينة لأن الإنتماء السياسي ليس شعاراً ترفعه الحركة السياسية أو الدينية بل هو مجموع ممارساتها وعملها. ومن تابع ما فعلته الحركة الوهابية في القرن العشرين يجد أنها كانت في ركاب الصهيونية العالمية في كل مرحلة من مراحل التطور السياسي لأرض العرب خلال العقود التسعة الماضية.

- فقد أيدوا منح فلسطين لليهود منذ عام 1920 وأكدوا ذلك في أكثر من تعهد مكتوب لقادة اليهود وللأمريكيين.. وكل ذلك موثق ومدون ولا يكفي للرد على ذلك مجرد القول أنه تزييف فالسادة الأمريكيون لديهم أصل تلك التعهدات.

- لم يسهموا بجندي واحد لنصرة الفلسطينيين حين شردوا عام 1948.

- ساندوا العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 فوقفوا مع الصهاينة اليهود والإنكليز والفرنسيين.

- عارضوا وتآمروا على كل مشروع يسعى لتوحيد أرض العرب فكانوا ضد وحدة مصر وسورية عام 1958 وضد توحيد العراق والأردن في العام نفسه.

- تدخلوا بشكل مباشر في اليمن عند قيام الجمهورية بعد ثورة السلال والإطاحة بحكم الإمامة وساهموا ودعموا القتال المرير والدموي الذي استنزف اليمن ومصر التي جاءت لتدعم الجمهورية.

- ساهموا بالمال في الردة التي وقعت في سورية عام 1961 وأدت لهدم أول وحدة عربية.

­- حرضوا الغرب والصهيونية عام 1967 على مهاجمة مصر وضربها والقضاء على حكم جمال عبد الناصر.

- سعوا ونجحوا في رفع الحظر النفطي الذي أجبروا على فرضه على أوربا في أعقاب حرب 1967، وذلك في أيلول من السنة ذاتها. مما أعطى الصهاينة ما أرادوه في إذلال العرب حربياً وأخذ نفطهم طوعاً. ولم يكن العذر في الحاجة للمال لدعم المجهود العسكري العربي إلا ورقة توت لا تستر عوراتهم ذلك لأن ما لديهم من مال كان يكفي لمائة عام بينما كانت أوربا لا تستطيع تحمل الحظر النفطي لسنة واحدة.

-  دعموا حاكم الأردن، حسين بن طلال، في تآمره على الثورة الفلسطينية، أيام كانت تبشر بثورة ممكنة، وذلك على الرغم من خلافهم وعدائهم لحاكم الأردن.

- وقفوا ضد حرب 1973 وبذلوا كل جهد لتخفيف العبء عن الصهيونية العالمية الذي كان ممكناً للأمة العربية في الضغط عليها لإنتزاع الأرض. فرغم ان الحظر النفطي أدى لإضرار كبيرة في الإقتصاد الرأسمالي الصهيوني إلا أنهم سارعوا لرفعه والتخفيف عنه ولو إستمروا فيه لكان أمراً آخر قد تغير!

- أسسوا مجلس التعاون الخليجي ليضم آخر النظم السياسية الإستبدادية في العالم من أجل ضمان استمرار المشروع الصهيوني في جزيرة العرب والخليج عن طريق تأمين عدم خروج أي من تلك الدول، وبعضها وهمي، عن أهداف المشروع.

- منحوا الصهيونية العالمية قواعد ومطارات لقوة لتدخل السريع التي أسسها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. وقد علق أحد القادة الأمريكيين عند غزو العراق بأنه لم يجد مثل تلك القواعد في جهوزيتها وصلاحها حتى في الولايات المتحدة.

- نجحوا في إختراق الحركة القومية في بعث العراق وسورية في الوقت الذي كان فيها طرفا البعث في البلدين في نزاع غير مبدئي وغير عقلاني وغير مفهوم. ولعبوا في سبيل دفع كل طرف من الإثنين لمحاولة التقارب معها والتآمر على الطرف الآخر، وهكذا كان.

- بذلوا المال الوفير من أجل محاربة الإتحاد السوفيتي في أفغانستان رغم عدم وجود أي مصلحة عربية في ذلك، إذ ان المصلحة الوحيدة كانت خدمة الصهيونية في مشاريعها العالمية للإستحواذ ومحاربة النظام الإشتراكي.

- أمنوا الدعم التام للنظام الإقتصادي الصهيوني وذلك بضخ كميات من النفط تفوق في اليوم الواحد عشر مرات حاجة جزيرة العرب وذلك من أجل الحفاظ على مستوى اسعار للطاقة تريده الرأسمالية الصهيونية دون أي حساب للأمن القومي العربي في الحفاظ على ثروة العرب للأجيال المقبلة.

- دعوا الصهيونية "الكافرة" أن تأتي بجيوشها وتضعها في أرض "محمد" كي تخرج منها لتدمر العراق العربي المسلم عام 1991.

- دعموا الصهيونية العالمية في جرائهما في بقاع العالم خارج أرض العرب والمسلمين في حروب سرية عديدة لم نسمع عنها فانكشف أمر إحداها في دعمهم للإرهابيين المسمين "الكونترا" في نيكاراغوا والذين كانوا يقاتلون الحكومة اليسارية فيها في حرب لا علاقة لها بالإسلام والمسلمين مما يؤكد أن الحزب الوهابي مسخر لخدمة الصهيونية في كل مكان في العالم!

- وضعوا جزيرة العرب بأرضها وجوها ومائها في خدمة الصهيونية العالمية لفرض الحصار الجائر على العراق لمدة 12 عاماً، فساهموا في قتل ملايين المسلمين في وقت يدعون فيه أنهم أمناء على دين الله!

- فرضوا على بقية العرب المهزومين مشروع "المبادرة العربية" والتي تهدف لتسوية القضية الفلسطينية دون أن يكون للفلسطينيين رأي في المشروع وهي قضيتهم وعرضوه على العالم وهم على علم بأن الصهيونية سوف ترفضه لأنها تريد أكثر وأكثر ...

- ساهموا في غزو العراق وإحتلاله عام 2003.

- جندوا بهائم المسلمين وأمدوهم بالمال والسلاح وأرسلوهم لتخريب سورية وهدم منشآتها وقتل ابنائها بحجة طلب تغيير النظام لعدم عدالته ولتمسكه بالسلطة رغم أنهم، ومن معهم من الوهابيين حكام مجلس التعاون الخليجي، آخر أهل الأرض صلاحية ليطالب بهذا!

وقد تمكنت الصهيونية العالمية من تحقيق كل ذلك على يد الوهابية لسببين أولهما توفر المال الذي تدفق مع تدفق النفط في القرن العشرين وثانيهما وهو الأهم مرده لطبيعة الثقافة الإسلامية التي جعلت من الدين أداة لخدمة السياسة وإدعت أنها بذلك تقيم شرع الله رغم أنه لا علاقة لله تعالى بالصهيونية!

فما الذي فعلته الصهونية الوهابية؟

إن ما فعلته الوهابية، والذي لا يتوفر لأية حركة سياسية أو حزب في  العالم، أنها وظفت المال في بناء المساجد في أرجاء الأرض وأرسلت أنصاف المتعلمين من الأعراب ومن تبعهم لإدارتها والوعظ بين بسطاء المسلمين بأي شيء كتبه أو أفتى به أسيادهم الصهاينة مما يمكن تغطيته بغطاء الدين، فليس هناك قضية تعرض لأحد دون ان يوجد لها حديث مخترع في فترة ما من تأريخ الإسلام المزور، فليس عصرنا هذا هو العصر الوحيد الذي إحتاج فيه حكام المسلمين لإيجاد الأعذار والحجج لسلوكهم وسياساتهم... فقد فعل مثل ذلك من إدعوا التفقه في الدين قبل قرون.

وقد ثبت الوهابيون وبشكل منتظم وتدريجي الفكر التكفيري القائم على إعتبار كل من خالفهم مشكوك في أمر دينه... فالذمي كافر وإن كانت الحملة خفيفة اللهجة لأسباب معروفة. أما بقية المسلمين فهم بين كافر ومتحير فالعلوي والإسماعيلي والشيعي على سبيل المثال كافر ومرتد وبقية أهل السنة في نصف ضلالة وشيوخهم بحاجة لنقد وتقويم..

ثم أسسوا لثقافة مخيفة وغريبة قضوا فيها إستناداً لإبن تيمية أن نفس ومال وعرض الكافر حلال لهم وبذلك أباحوا القتل والسرقة والإغتصاب بحجة أن هذا من دين الله، والله ورسوله لا علاقة لهم بأي من ذلك.. وألمحوا إلى نيتهم هدم قبر الرسول الأكرم (ص) لكن نصيحة  أسيادهم كانت لتأجيل ذلك العمل حتى يتم إختبار رد فعل المسامين في إحتلال المسجد الأقصى أولا والذي سيحدث عن قريب...ثم هاجم الوهابيون قبور أهل بيت رسول الله (ص) في كربلاء والنجف المقدسة لدى الشيعة من المسلمين في أوائل القرن التاسع عشر فقتلوا ونهبوا ودمروا. وهذه الثقافة تغلغلت بشكل تدريجي في جيلين من المسلمين في القرن العشرين فولد عنها تيار القاعدة المدمر كما سنرى لاحقاً.

وهكذا أتيح للوهابية بواسطة إستغلال الإسلام ما لم يتح لأي حركة سياسية أو فكرية في العالم فالمساجد مفتوحة في كل العالم الإسلامي خمس مرات في اليوم للصلاة وبين الصلوات لمجالس الحديث والوعظ.. ويأتي ملايين المسلمين لهذه المساجد كل يوم طوعاً.. في حين أن أية حركة سياسية أو حزب إذا أراد أن يعقد مؤتمراً لأعضائه فإنه يسعى ويجهد وينظم لكي يأتي نفر لذلك اللقاء.. أما الوهابية فيأتيها الناس دون جهد منها خمس مرات في اليوم في كل العالم.. وما عليها إلا أن تغسل عقولهم بالوعظ الموجه، وهكذا فعلت ونجحت في استغلال الإسلام لتحقيق المشروع الصهيوني المعد منذ قرون في الإستحواذ على عقول المسلمين.

كما ان الوهابية انتفعت من حقيقة أخرى سببها التخلف والفقر في العالم العربي بشكل خاص. فقد أدى ذلك لهجرة عشرات الآلاف من العرب من مصر وسورية والعراق والأردن والسودان وفلسطين للعمل في جزيرة العرب ودول الخليج حيث احتضنتهم البيئة الوهابية بفكرها ومساجدها وغذتهم بالفكر الذي أرادت نشره وولد جيل كامل في جزيرة العرب والخليج لم يسمع بعمار بن ياسر لكنه سمع بابن تيمية! ولا عجب فأكثر هؤلاء كانوا من بسطاء الناس وليس للفكر البسيط ما يحتاجه أكثر من بسائط الأفكار. فالفكر المسطح يقبل بسهولة نظرية الأرض المسطحة!

وكثير من هؤلاء حين عادوا لبلدانهم فإنهم كانوا مشبعين بالفكر الوهابي ومؤمنين بأن هذا هو الدين الصحيح وان إتباع ما يفتي به شيوخ الوهابية هو عين الصواب.. ومن هؤلاء خرج الإنتحاريون والقتلة وآكلو القلوب وباقرو البطون باسم الدين، وبعضهم قد يكون معذوراً لأنه لم يسمع غير ذلك....

كما ان النظم السياسية العربية خارج الجزيرة في دول مثل العراق وسورية ومصر لم تفهم ابعاد المؤامرة فلم تحسن التعامل معها. فقد تركوا أمر المساجد وما يجري فيها ظناً منهم أنها لا تشكل خطراً عليهم فاستغل الحزب الوهابي ذلك الفراغ وملأ المساجد بأتباعه من الوعاظ الخبيثين فغسلوا عقول الناس مستغلين فشل النظام السياسي العربي في إصلاح حال الناس في تلك البلدان ومتغاضين عن فشل الوهابية في إصلاح حال الناس في جزيرة العرب والخليج...

وحين إكتشف النظام السياسي العربي خطر تلك المؤامرة كان الوقت متأخراً فقد إستفحل المد في الجزائر ومصر وليبيا والعراق وسورية...بل إن بعض خطوات تلافي ذلك الضرر جاءت بنتائج عكسية فحين أحس صدام حسين بحجم النكبة في العراق فإنه أراد أن ينبه الناس لها فارتكب حماقة كبرى حين أطلق "الحملة الإيمانية" والتي أعطت الوهابية أكثر من باب لتهييج الناس ضد المشروع القومي وفتنتهم على أسس مذهبية ما زالت آثارها معنا اليوم.

وسوف أعرض إن شاء الله في الحلقة القادمة لمشروع الإخوان المسلمين وكيف تم متمماً وموازياً للحركة الوهابية قبل الوصول إلى خاتمة المؤامرة في ولادة القاعدة التي نشأت حصيلة لما سبقها.

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

26 شباط  2014

www.haqalani.com

==================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الثانية عشرة

ما أن بسطت الصهيونية سلطتها على جزيرة العرب بعد أن مكنت الوهابية من مكة، حتى سارعت لتحتوي بقية أرض العرب من خلال الإسلام... فلم يغب عن المستشرقين والباحثين في معاهد الصهيونية في أوربا وأمريكا أن بقية أرض العرب ليست كلها كجزيرة العرب والخليج في تخلفها. وهذا يعني أنه قد لا يكون من السهل تصدير الفكر الوهابي لبقية الأرض العربية خصوصاً إذا ما أخذوا في حسبانهم أن تطلع المتعلمين الجدد في مصر وبلاد الشام والعراق كان نحو التحرر أكثر من العودة بالفكر لقرون سابقة لا يعرف عنها المتطلع سوى من نظرة شاعرية ليس لها في الواقع جذور عميقة.

فعرب المشرق شمال جزيرة العرب لا يكفي أن ترضيهم دعوة بسيطة كتلك التي جاء بها عبد الوهاب والتي تدعو لنظرة سطحية في معنى التوحيد الذي لم يفهمه هو اصلاً. فهم كانوا بحكم سبقهم الفكري للأعراب من أهل الجزيرة والخليج يطمعون بفكر يبحث في الربط بين الدولة والدين في ظل عالم جديد تحكم العلاقات فيه مبادئ جديدة مثل الدولة القومية والعلاقات الدولية وقانون اصطلح على تسميته بالقانون الدولي ومعاهدات وتحالفات جلها وضعت خارج نطاق الإسلام ودون تشاور مع المسلمين. أي ان الجيل الناشئ من مسلمي المشرق العربي (وهي تسمية فضفاضة) كان يريد نظرية سياسية قد لا تنفصل عن الإسلام لكنها قادرة على التعامل بواقعية مع العالم الذي يعيش فيه المسلمون بعد انهيار الدولة العثمانية والتي كانت  لقرون غطاءً مشوهاً للإسلام. ولم يكن الفكر الوهابي الساذج قادراً أن يرضي هذا التطلع أو حتى أن يتعامل مع الحقائق التي تحيط بالمسلمين.

وليس مهماً أن تكون الصهيونية ساهمت في نشوء حركات إسلامية في المشرق العربي أو أنها إحتضنت تلك الحركات بعد نشوئها. إذ ان المهم ان الحركات الدينية السياسية التي نشأت في المشرق العربي كانت تعمل على وفق المصلحة الصهيونية في أرض العرب. وهذا ليس إستنتاجاً بعد أحداث العقد الأول من القرن الحالي لكنها الحقائق الموضوعية لما جري في أعقاب الحرب العالمية الأولى في القرن الماضي. وقد يجد عدد من القراء أن هذا تعسفاً في الموقف وإجحافاً بحق بعض الحركات الإسلامية، إلا أني أدعو لنظرة موضوعية في الأحداث. فلست أعلم ما كان يحمله حسن البنا في سريرته فهذا أمر يختص به رب العزة لكني أحكم على ما قام به حسن البناء وأتباعه من عمل وكيف كان ذلك العمل يصب في مصلحة الصهيونية العالمية ثم أحكم عليهم من خلال ذلك.

فمصر التي كانت قد سبقت بقية الأمة العربية، وما زالت سابقة في بعض الأمور، بحكم أنها أول من خرج من هيمنة العثمانية المتخلفة واطلعت على التطور الأوربي الذي ولد عن التنوير في فصل الدين عن السياسة والنهضة الأوربية التي أعقبت ذلك التنوير والثورة الصناعية التي ولدت عن النهضة.... مصر تلك كانت أسرع من بقية العرب في محاولة تلمس الطريق الجديد بين الإسلام والتطور الفكري والسياسي الأوربي.

فولدت في مصر حركة الإخوان المسلمين داعية لإقامة دولة إسلامية. ولم تكن الحركة بالضرورة متجانسة في فكرها أو حتى تحمل فكراً متكاملاً لمفهوم الدولة الإسلامية التي تطمع أن تراها. كما ان من دعموا تلك الحركة أو إنتظموا فيها لم يكونوا جميعاً يحملون التصور او التطلع ذاته. فحاملوا الحلم الإسلامي في مصر في مطلع القرن العشرين يمكن تصنيفهم في مدى واسع يمتد بين الإسلامي العلماني وبين السلفي الأعمى!

ثم بدأت الصهيونية تشعر أن نشوء الدولة القومية في المشرق العربي نتيجة لسايكس بيكو بعد إنهيار الدولة العثمانية ربما لم يكن الحل الأفضل لضمان مصالحها في أرض العرب، إذ ولدت حركات وطنية وأخرى قومية تتحدث عن الحق في الإستقلال السياسي والإقتصادي عن الهيمنة الصهيونية. ولم تكن الصهيونية لتتخلى عن مشروعها الكبير في الهيمنة على المنطقة والتي عملت لقرون على تنفيذه وبدأته بالمشروع الوهابي قبل قرن ونصف. وحين دققت في الأمر وجدت أن الحركات الإسلامية هي الضمان الأفضل لها في التصدي للمشروع الوطني والقومي الناهض في أرض العرب. فقد وجدت الصهيونية العالمية نفسها أمام تيارين رئيسين في أرض العرب هما التيار القومي الداعي لتوحيد أرض العرب وتحقيق نوع من العدالة الإجتماعية وبين التيار الشيوعي الموالي لموسكو والذي كان يؤمن بوحدة الحركة الإشتراكية العالمية ويحلم بدولة عالمية تقوم على أسس من الماركسية. وكلاهما كان مناقضاً لأهداف الصهيونية. فكان للصهيونية سبيلان في مواجهة هذه الحقيقة التأريخية الفاعلة على الأرض. وأول السبل كان تأجيج الصراع بين القوميين والشيوعيين والذي دخل فيه قادة المشروعين السذج وانتهى الأثنان يقتل بعضهم بعضاً ويسفه بعضهم بعضاً حين كانت الصهيونية تضحك عليهم وانتهى الإثنان بعد ثمانية عقود بشبه إفلاس! أما السبيل الثاني فكان دعم حركة الإخوان المسلمين... ذلك لأن أغلبية العرب متدينة بالسليقة ويمكن أن توالي بشكل أسهل حركة دينية منها حركة علمانية وطنية.

فإذا قال قائل وما هو الدليل على أن حركة الإخوان المسلمين كانت في ركاب الصهيونية؟ فإن نظرة واحدة على تأريخ الحركة في مصر منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى اليوم تكشف أن سياساتها كانت جميعاً متفقة مع المشروع الصهيوني، وحيث إن هذه ليست دراسة تحليلية في تأريخ الحركات السياسية أو الدينية فإني لن أعرض لكل مرحلة من مراحل الثمانين عاماً الماضية وما فيها من سلوك ومواقف تثبت ذلك لكني أستعير نماذج سريعة لتبيان ذلك تاركاً لمن أراد المزيد أن يعيد النظر في التأريخ.

1.   فحركة الإخوان المسلمين في مصر لم تأخذ موقفاً معادياً للملك فاروق ولحكمه والذي كان في جوهره حكماً مواليا للصهيونية إن لم يكن من صنيعتها، وهو، أي حكم فاروق، كان بهذا مناقضاً لشرع الله الذي كانوا ينادون به.

2.   لكن حركة الإخوان المسلمين وجدت في ثورة مصر عام 1952 عدواً ونقيضاً رغم أنها كانت ثورة تحرير أخرجت مصر من قيود وضعها فيها الإستبكار العالمي والصهيونية. ويكفي مصداق ذلك ما كتبه أحد رجال الإخوان المسلمين الذي كان يتخذ مجلساً للوعظ والإفساد بين جهلة الخليج حين صرح أنه سجد ركعتي شكر لله حين إحتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء، فلا غفر الله له!

3.    ولم تكتف حركة الإخوان المسلمين في مهادنتها لحكم فاروق وعدائها لثورة التحرير المصرية بل إنها حاولت إغتيال المرحوم جمال عبد الناصر والذي كان المعبر عن مرحلة من أكثر مراحل القرن العشرين صدقاً وإخلاصاً في تحرير الأمة. ولا يمكن لأي مراقب أو قارئ للتأريخ إن يحكم على محاولة قتل ذلك القائد الرمز إلا بأنها خدمة للصهيونية العالمية. وستبقى تلك العملية عاراً في تأريخ الحركة حتى قيام الساعة.

4.   وحين وصل الإخوان المسلمون للسلطة لأول مرة فإن ستر النفاق السياسي، الذي نشروه بين الناس خلال العقود الماضية والذي اتهموا فيه الجميع بالخيانة، انهتك فجأة حين قرر الإخوان الإعتراف بكل معاهدات الذل التي وقعها من سبقوهم مع الصهيونية العالمية والتي اعترفت مصر فيها بالدولة اليهودية المغتصبة لقدس الأقداس، وادعوا أن الظرف السياسي الذي يحتاجونه لبناء الدولة الموعودة يلزمهم بذلك. لكنهم لم يشرحوا للناس سب الغزل السياسي الذي جاء في رسالة رئيس مصر الإخواني لرئيس إسرائيل الصهيوني!

ثم نشأت حركة للإخوان المسلمين في سورية والعراق بعد مصر. ولم يكن لحركة الإخوان في العراق الدور نفسه الذي كان لها في مصر أو سورية وذلك بسبب إختلاف الصراع السياسي الديني في العراق لبنائه على أسس مذهبية مما قد أعرج عليه لاحقاً. أما إخوان سورية فقد اثبتوا أنهم أكثر الإخوان المسلمين العرب عنفاً وتطرفاً وأشدهم عداءً للمشروع القومي وبالتالي أفضلهم للصهيونية. فقد لجؤا لعمليات القتل والتخريب منذ مرحلة مبكرة من حكم البعث. وقد ينطلي على بعض العقول الساذجة من العرب والمسلمين إدعاء إخوان سورية اليوم أنهم يقاتلون سلطة العلويين "الكافرة" كما يسمونها دون أن يعطوا حتى غطاءً شرعياً يكشف عن من أعطاهم حق تكفير الناس وإذا ما وقع هذا التكفير من أعطاهم حق قتل معارضيهم حتى إذا كانوا كفاراً. لكن حقائق الأمور تكشف خلاف ذلك لأن أول تمرد لهم ضد المشروع القومي وقع في زمن المرحوم أمين الحافظ عام 1964. ولم يكن حافظ الأسد قد وصل لقيادة الحزب والسلطة بعد. فإذا كان ما يدعونه الآن من أن قتالهم هو ضد العلويين وليس ضد المشروع القومي فكيف يمكن لهم أن يجدوا تسويغاً لمواجهة أمين الحافظ وقيادته؟ إن حقيقة الأمر هي أن إخوان سورية يريدون دولة دينية على مزاجهم ورغم التأريخ وهم بهذا يصطفون مع المشروع الصهيوني الذي ليست لديه أية مشكلة مع دولة إسلامية أجيرة... فما الذي يضير الصهاينة أن يصلي المسلمون عشرين مرة في النهار وأن يلعنوا الشيعة والدروز والعلويين والإسماعيلية واليزيدية والكشفية وغيرهم ويقاتلوهم ما داموا يعدون اليهود والنصارى من أهل الذمة ممن يجب حمايتهم وما داموا غير معترضين على النظام الرأسمالي الصهيوني العالمي الذي يحكم كل شيء ويقسم أرزاق رب العزة كما يشاء فيأخذ ما يشاء ويعطي ما يشاء ويصادر ما يشاء ويحجز على من يشاء؟ وإخوان سورية في هذا كانوا أول من أثبتوا سيرهم في المشروع الصهيوني حين هاجموا حكم البعث في عهد الرئيس البعثي أمين الحافظ. فالذي فعلوه ويفعلونه اليوم في الهجمة المدمرة على المشروع القومي هو ليس إلا حملة جديدة أكثر شراسة وتنظيماً مما وقع قبل خمسين عاماً..

هذا غيض من فيض لكنه شاهد على حقيقة سياسة الإخوان الموالية للصهيونية. وليس عسيراً فهم هذه المحاولات، ذلك لأن الحركة السياسية الإسلامية بشكل عام ليست معنية ببناء دولة مستقة ذات مشروع سياسي أو وطني مستقل أو متحرر لأنها معنية فقط بقيام دولة إسلامية، فإذا كانت تلك الدولة ستقوم بدعم ومباركة صهيونية وتحت هيمنة تلك الأخيرة فليس هناك من مانع ما دام قيام الدولة الإسلامية قد تحقق....وهذه الحقيقة تنطبق على كل الحركات الإسلامية التي نشأت في العالم الإسلامي خلال قرن من الزمن فليس هناك من فرق فيما إذا كانت الحركة وهابية أو إخوانية أو قاعدية...فالوهابية كانت وما زالت في حضن الصهيونية في كل مشروع سياسي في القرن الماضي بشكل علني وواضح... وحركة الإخوان المسلمين في العراق وسورية تعاونت مع الصهيونية في كل مرحلة لمواجهة المشروع القومي لحركة البعث... والقاعدة نشأت على أيدي المخابرات الأمريكية بمعرفة الجميع حيث أوكلت إليها مهمة محاربة الإتحاد السوفيتي أول الأمر بحجة الجهاد في سبيل الله وكأن الله صهيوني وليس شيوعياً!

وحركة حماس وافقت على الهدنة مع إسرائيل ما دامت الأخيرة راضية بالدولة الإسلامية الهزيلة المنزوعة الإرادة في قطاع غزة... والهجمة البربرية على سورية قامت وما زالت تمون وتدعم من قبل الصهيونية العالمية وليس لدى الإخوان المسلمين حرج في أنهم مع الصهيونية العالمية ما دامت تلك توافق على قيام دولة إسلامية في بلاد الشام!

ولعل من الواجب التوقف هنا وإلقاء نظرة على حقيقة مهمة وهي أنه خلال المائة عام المنصرمة لم نشهد كاتباً إسلامياً واحداً قدم لنا نظرية في الدولة الإسلامية المرجوة. فهل يراد منا أن نقبل بقيام دولة إسلامية فقط لأنها تحمل إسماً كهذا؟ أم أن من حقنا أن نسأل ما هي تلك الدولة وما الذي تريد أن تحققه وأية شريعة تريد أن تطبق وأية علاقات دولية مع الآخرين وما هو موقفها من القانون الدولي إذا تعارض مع الشريعة الإسلامية كما يفهمونها وأين تقف الدولة الإسلامية من النظام الإقتصادي الرأسمالي وأين تقف من حق المرأة بشكل خاص ومن حقوق الإنسان بشكل عام وأين تقف من غير المسلمين الذين يعيشون داخلها؟؟ وأين وأين؟؟.... فليس هناك كتاب واحد يمكن أن يجيب المتسائل عن هذه الدولة المرجوة. إن الحديث عن العودة للسلف الصالح لا يعدو أن يكون سخفاً في سخف. فمن هو السلف الصالح الذي يراد الإقتداء به؟ وهل ما صلح للوليد بن يزيد أو المعتصم بن هارون يصلح للقرن الحادي والعشرين؟ واين ذلك من قوله تعالى "كل يوم هو في شأن"؟ ثم من قال إن هؤلاء كانوا صالحين فعلاً؟ إن مجرد حكمهم للمسلمين ليس كافياً للدلالة على صلاحهم ذلك لأنه ليست هناك قاعدة سماوية تقضي بأن كل من حكم المسلمين لابد أنه كان صالحاً. ولو كان ذلك حقاً لما كتب الله على بغداد أن يستبيحها هولاكو!

وقد يسأل سائل عن الحكمة في خلق أكثر من حركة إسلامية إذا كانت واحدة تغني عن ذلك. وجواب ذلك لا يختلف كثيراً عن قاعدة معروفة في العلاقة البشرية السائدة في الأرض والتي تقضي أنك إذا أردت حكم قوم ففرقهم كي ينشغلوا بخلافاتهم عنك أولاً كي يتسابق كل طرف مع آخر لكسب ودك ثانياً.  فحين اكتشفت الصهيونية العالمية كما أسلفت ان العرب خارج الجزيرة ليسوا كعرب الجزيرة فقد كان طبيعياً أن يتطلع المسلمون فيها لحركة تختلف في نهجها عن الوهابية فكانت حركة الإخوان المسلمين. فإذا وقع خلاف بين الوهابيين والإخوان فهو في صالح الصهيونية لإن كلا الطرفين هو في ركاب الصهيونية فأياً كان المنتصر فهو في صالحها. ثم إن تنازع الإثنين سوف يضعفهما وهذا بالتالي يقود لحاجة كل طرف منهما أن يقدم المزيد من التذلل للسيد الصهيوني وهو ما حدث ويحدث اليوم....

ومرت السنون على الوهابية والإخوان... ووجدت الصهيونية حاجة لتأجيج الوضع وتحريك الساحة بعد أن ضعف ثقل الإثنين تحت تأثير النجاح الجزئي للحركة القومية المتمثلة في بعث العراق وسورية وحكومات العسكر في دول مثل ليبيا والجزائر والسودان واليمن.. فجاءت ببدعة القاعدة والتي لم تخف الصهيونية أنها أسستها أو دعمتها بالمال والسلاح والتدريب والمعلومات الإستخبارية. ولسنا بحاجة لإثبات ذلك فقد صرح به قادة الصهاينة ومن ما زال يجهل ذلك فهو إما لايريد أن يقر بالحق وإما يعرف ويحرف!

وقد تفتق الذكاء الصهيوني عن إستغلال أفغانستان ساحة لتنفيذ تلك المرحلة من الهيمنة الصهيونية على الإسلام والتي ولدت في مشروع خلق الوهابية قبل أكثر من قرنين... وقد كان ذلك القرار ذكياً لعدة أسباب. أولها إن إستعمال أفغانستان ميداناً لخلق تلك الحركة تجاوز تعذر تحقيق ذلك على أرض العرب في ثمانينات القرن الماضي.

وثانيها ان عواطف العرب كان من الأسهل إستمالتها لدعم مجموعة خارج أرض العرب تدعي أنها تدافع عن الإسلام منها في إستمالة العرب للدفاع عن نظام إسلامي في أرضهم. وهذا أمر قد لا يبدو واضحاً للكثير من الناس. وسببه هو أن العرب يعدون الإسلام نتيجة طبيعية لوجودهم فهم بذلك لا يشعرون بالحاجة لتوكيده. لكن الأمر يختلف بالنسبة للمسلمين من غير العرب والذين يكون الإسلام هو هويتهم فالباكستاني يعد الإسلام هويته التي تميزه عن الهندوسي بل هو يستاء كثيراً إذا ما وصف بالهندي. وهكذا فإن العرب قد يتعاطفون بشدة مع المسلمين من غير العرب إذا طمعوا في تثبيت هويتهم الدينية.

وهكذا جمعت الصهيونية من قدرت عليه من مسلمي الأرض وأمرت أجراءها في جزيرة العرب لتموين المشروع كلياً مغطية بذلك كلفة السلاح وإدامة المقاتلين وعوائلهم وكلفة التدريب الذي قامت به القوات الخاصة الأمريكية بتنسيق وسيطرة المخابرات المركزية الأمريكية. وقد رضخت حكومة جزيرة العرب لذلك رغم تخوفها من إمكانية خروج هذه الحركة عن سيطرتها وإفقادها لإدعائها زعامة العالم الإسلامي.

وقد حققت الصهيونية العالمية هدفين من تأسيس القاعدة وما عرف "بمجاهدي" أفغانستان. وأول هدف كان إنهاك الجيش السوفيتي في قتال مرعب في طبيعته لذلك الجيش حيث إن "مجاهدي" افغانستان كانوا يقاتلون بطريقة لم تعرفها الحروب من قبل فكان كافياً أن يسمع الجندي الروسي أن المجاهدين كانوا يلعبون كرة قدم بجماجم رفاقه في معركة سابقة كي يرتجف رعباً... وهكذا هيأت الصهيونية العالمية العالم لقبول ثقافة القتل وبقر البطون وقطع الرؤوس تحت غطاء محاربة الشيوعية في أفغانستان الإسلامية. وما نراه اليوم في العراق وسورية من القتل وقطع الرؤوس ولد في قتال "المجاهدين" في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. وأعجب حين يظهر الصهاينة إستغرابهم من الإرهاب الذي استشرى اليوم في أرض العرب وكأنهم لم يؤسسوا له قبل ثلاثة عقود. فليس عسيراً أن نجد العشرات من الذين يقودون زمر الإرهاب اليوم ممن يفخرون أنهم قاتلوا في افغانستان. فهل يراد منا أن نصدق أن المخابرات الأمريكية التي جندت ودربت هؤلاء لا تعرف عنهم شيئاً ولا أين انتهوا بعد إنتهاء المهمة في أفغانستان؟ أو أنهم قطعوا علاقاتهم مع الصهيونية بعد إنتهاء الحرب في أفغانستان كي يتجمعوا فجأة ليظهروا في شوارع سورية والعراق؟

وحتى لا يختلط الأمر على القارئ في أن يتصور أن الحركات الدينية السياسية التي حصرتها في ثلاثة ألوان من وهابية وإخوانية وقاعدية تختلف في جوهرها الواحدة عن الأخرى فإني أود أن أؤكد أن الأمر ليس كذلك وإن بدى للعيان وجود خلافات بينها. فجميع هذه الحركات تطمح في بناء دولة إسلامية وقد لا تتفق جميعها في شكل تلك الدولة المرجوة لكنها في الوقت نفسه لا تمتلك صورة واضحة لما تريد لأنها لا تعرف حقاً ما تريد أكثر من دولة تدعي الإسلام وتكون تلك الحركة قائدة لها. ثم إن هذه الحركات جميعاً هي في ركاب الهيمنة الصهيونية أي أنها جميعاً ليس لديها إيمان بالإستقلال السياسي لأنها لا تؤمن أساساً بالدولة العصرية وهي بهذا تعتقد أن قيام الدولة الإسلامية الأممية سوف يحل إشكالية الحاجة لنظام سياسي. وليس صعباً على كل ذي عقل أن يدرك أن الصهيونية العالمية التي تمتلك زمام الأمر في العالم لا يمكن أن تسمح لهذا الحلم أن يتحقق لكنها ما دامت تعرف أن هؤلاء الأطفال الذين يعيشون بعقلية الطفولة السياسية المبنية على قناعة غيبية بأن الله سينصرهم حين يحين الوقت، ليست في عجلة من أمرها لكي تقصر الحبل وتشد من أعناقهم. اما سبب الإختلاف الذي قد يقع بين هذه الحركات والذي قد يكون صادقاً في بعض الأحيان فله أكثر من سبب. فليس من العسير فهم الصراع بين المدينة والبداوة ورغبة إسلاميي كل طرف في قيادة المرحلة السياسية المرجوة. كما أنه ليس غريباً أن يكون الصراع لأسباب شخصية أو قبلية أو حتى محلية كما هو الحال في أي إنتماء حزبي في العالم. وقد تفسر هذه الحقيقة سبب السهولة التي ينتقل بها مقاتلو الحركات الإرهابية في سورية من واحدة لأخرى فلا يجد أحدهم حرجاً في أن يبايع حركة أو "أميراً" جديدا متى شاء، مما يجعل الحديث عن أن الحركات المقاتلة في سورية يمكن أن تصنف بين معتدل ومتطرف حديث خرافة، فليس في الإرهاب المغطى باسم الدين إعتدال فكل إرهاب هو تطرف. فالذي يقتل النفس التي حرم الله لا يمكن إلا أن يكون متطرفاً قاتلاً خارجاً عن حدود الآدمية ولا علاقة له بالإسلام سواءً استشهد بحديث أو مائة حديث مختلق أو اقتدى بسلف أو أكثر أو فقيه أو خمسة فقهاء...

لكني بعد هذه النظرة العاجلة في أزمة المشروع السياسي للحركات الإسلامية السنية لا بد أن أعرض شيئاً عن الحركات السياسية الشيعية ودورها في القرن الماضي والحاضر في صياغة المسرح السياسي الإسلامي والعربي... وهذا ما سأحاول عرضه في الحلقة القادمة بإذن الله..

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

10 أذار 2014

8 جمادى الأولى 1435

www.haqalani.com

==================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟  - الحلقة الثالثة عشرة

 ليس خافياً على من تابع الحلقات السابقة أن يستخلص أني كنت أتحدث عن الإسلام السياسي السني وأعني بهذا الحركات الإسلامية السياسية التي ولدت في مذهب من يسمون أنفسهم بأهل السنة والجماعة. وليس المقصود في إيراد هذه الحقيقة أخذ موقف من أحد إذ أنه واقع فرضه الصراع السياسي في الإسلام والذي نشأ منذ صدر الإسلام والذي سبق أن اشرت إلى أنه صراع سياسي بين "بيت علي" و"بيت عائشة" حيث إنقسم المسلمون في تحزبهم السياسي لأحد البيتين ثم اضاف من سموا بالفقهاء لاحقاً فروقاً تفصيلية لتثبيت ذلك الإنقسام. إلا أنه ظل وما زال في جوهره صراعاً بين البيتين.

إلا أني لا يمكن أن أتوقف عند الإسلام السياسي السني رغم أهميته، إذ أن دخول الإسلام السياسي الشيعي المسرح السياسي بشكل فاعل بعد قرون من التقية أصبح جزءً من تعقيد الصورة وشريكاً في أزمة الإسلام السياسي في وقتنا الحاضر والتي هي ليست إلا إمتداداً لنشأته هو أيضاً. وحين أتحدث عن الإسلام السياسي الشيعي فإني أعني به الشيعي الجعفري الإثني عشري وهذا يعني تجنب الحديث عن السياسة في فرق الشيعة الأخرى مثل الإسماعيلية والزيدية والعلوية على سبيل المثال، فهذه لها تراث سياسي كذلك لكنه ليس بتاثير الجعفري.

وقبل الحديث عن حاضر التشيع السياسي لا بد من التعريج على ظاهرتين مهمتين في التشيع لعلاقتهما بتطوره، وهما "التقية" و "التقليد". فالتقية سياسة قديمة وجدت جذورها في الحكم الأموي حين كان علي بن أبي طالب يلعن على منابر المسلمين فوجد شيعته العيش صعباً إذا ما جاهروا بتشيعهم، وحيث إن الأصل في الحياة هو حفظها وليس التفريط بها فقد أمر أئمة الشيعة من نسل الحسين أتباعهم بعدم إظهار تشييعهم علناً بل ذهبوا أبعد من ذلك فأجازوا إظهار العداء للتشيع إذا كان في ذلك حفظ للنفس والمال والعرض. فرووا عن علي بن أبي طالب قوله أنه للشيعي أن يسب أهل البيت من نسل علي إذا وجب عليه ذلك واستثنى من ذلك البراءة فليس للشيعي أن يتبرأ من أئمة بيت محمد لأن البراءة جات في المشركين فقط كما نص عليها رب العزة في سورة "التوبة" والتي كانت تعرف أصلا بسورة "براءة"...وتوسع الشيعة في ذلك فنقلوا عن الإمام جعفر الصادق قوله "التقية دين آبائي وأجدادي من لا تقية له لا دين له" وأحاديث أخرى بهذا المعنى. وهكذا غدا الشيعي متقياً لقرون. وزاد في الحاجة للتقية تلك حقيقة أن الشيعة كانوا أقلية صغيرة أثناء فترة الحكم العباسي والعثماني. فلولا نجاح الصفوييين الأتراك (ولم يكونوا فرساً كما يروج المشوشون اليوم) في تشييع إيران لكان الشيعة اليوم أقلية محصورة في العراق ولبنان لا تكاد تذكر! إن إتباع غالبية الشيعة للتقية على وفق ما وصفت قاد لنوع من الإستسلام بل القبول بالرضوخ والذل لقرون من الزمن كما أنه جر عليهم إستهزاء بعض أهل السنة والجماعة وإتهامهم بالنفاق في إظهار غير ما كانوا يبطنون.

أما "التقليد" فهو أن يتخذ كل شيعي رجل دين كمرجع له يستفتيه ويتبعه في أمور دينه ودنياه. وهذا التقليد ليس قديماً في التشيع الجعفري وإن كان قديما لدى الآخرين من الشيعة كالإسماعيلية والزيدية والعلويين ومن غير الشيعة في الأباظية على سبيل المثال. فقد ولد التقليد لدى الشيعة الجعفرية متأخراً نسبياً لكنه سرعان ما تحول لأكبر قوة في الإسلام السياسي عامة. فقد ولد عن التقليد ظهور "المرجعية" والتي تمثل موقع المجتهد المقلد والذي يتعدد بتعدد تقليد الناس لأكثر من مجتهد.... لكن الحقيقة هي أنه في كل زمن كان هناك مجتهد واحد أكثر تقليداً من غيره مما أعطاه قوة وتميزا على من حوله من المقلدين... فصار بذلك يمثل المرجعية بمعناها الديني والسياسي. وقد عزز تلك القوة فريضة "الخمس" الذي يدفعه الشيعي للمقلد وهو أن يخرج خمس ماله ويدفعه للمجتهد الذي يقلده مما بيرئ ذمته أمام الله في زكاة ذلك العام. وليس خافياً على أحد أن من يمتلك المال يمتلك القوة ولا فرق في ذلك بين تاجر السياسة وبين رجل الدين المجتهد. هكذا اصبحت المرجعية الشيعية قوة فاعلة في المجتمع قد تتجاوز أحيانا حجمها الحقيقي.

وليس خافياً على أحد خطورة قوة المرجعية... ذلك لأن من أراد أن يؤثر أو يتحكم بآلاف آلاف الناس ما عليه سوى أن يخترق المرجعية إما عن طريق المرجع نفسه أوعن طريق أحد أبنائه أو حاشيته المقربة.. وتأريخ المرجعية خلال القرن المنصرم غزير بنماذج منها لسنا بصدد ذكرها أو تعدادها إذ يكفي هنا أن نفهم خطورة قوة المرجعية...ويكفينا شاهد واحد على قوتها حين أفتى المرجع علي السستاني أن الواجب الشرعي يلزم كل مقلديه بالتصويت على الدستور العراقي الجديد الذي وضعه الإحتلال الأمريكي لكي يؤسس لنظام سياسي جديد في العراق قائم ليس فقط على قبول الإحتلال بل على قبول كل القوانين التي سنها المحتل بما فيها تلك التي أعفته من كل جريمة ومسؤولية عن الدم العراقي الذي سفك ظلماً، وهكذا كان كما شاء المرجع...

إن الحقيقة السياسية هي أن العراق وسوريا الكبرى ومصر كانت وما زالت وستظل تمثل الوزن الفكري والتأريخي للأمة العربية. وكل ما يحدث خارجها في أرض العرب هو نتيجة لما يحدث فيها. ومن أراد أن يهيمن على الأمة العربية فما عليه إلا أن يهيمن على هذه الدول والجغرافيا أو يضعفها للحد الذي  لايعدو لها دور في الحدث. ولا بد أن من يقرأ تأريخ المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى حتى اليوم يجد هذه الحقيقة ماثلة أمام عينيه. وهذه الحقيقة تتضح ليس في المشاريع الكبرى لكنها تتضح حتى في التفاصيل. فحزب الله هو جزء من جزء من جزء فهو جزء من لبنان والذي هو جزء من سوريا الكبرى والتي هي جزء من الوطن العربي. لكن هذا الحزب رغم صغره وحدود نشاطه الجغرافي له تاثير يفوق ذلك الحجم أضعافاً مضاعفة لأنه يلعب دوراً رئيساً في قلب الحدث والذي تمثل سوريا الكبرى مركز ثقله. وكذلك فإن المشروع السياسي الشيعي في العراق رغم تخلفه الفكري لأنه لم يقدم أي برنامج لما يريد تحقيقه فإنه لعب دوراً غير متناسب مع طاقته ليس فقط في إدارة الحكم منذ الغزو الصهيوني وإنما في التهيئة والإعداد لغزو العراق من قبل الإستبداد الصهيوني العالمي. إن التمثيل لهاتين الحالتين له أهمية فيما أكتب عنه لأنه وليد التقية والمرجعية التي أوردت آنفاً. كما إن دور التشيع السياسي في البلدين يجعل من الضروري النظر في كل منها رغم إختلاف في النشأة والموقف.

التشيع السياسي في العراق

ليس المهم في التأريخ صدقية الحدث المروي إنما المهم في التأريخ هو ما يصدق الناس أنه حدث فعلاً ذلك لأن الناس تتصرف على وفق تلك القناعات التي تجمعت لديها. وأفضل مصداق لهذا هو شعور الشيعة في العراق بشكل عام بالمظلومية. ولن أدخل هنا للسبب الذي ذكرت فيما إذا كان لهذا الشعور أسبابه أو مسوغاته لأن هذا لن يغير من الحقيقة المهمة وهي أن أغلب شيعة العراق يؤمنون بتحقق تلك المظلومية، ويشيرون إلى التمييز الذي وقع عليهم أثناء قرون من الحكم العثماني. وحيث إنه تعالى أنعم علي فلم أشهد ظلم العثمانيين للشعوب التي احتلوها من عرب وأرمن وأكراد وصرب وأوكرانيين، فإني لست قادراً على تقدير حجم ذلك الظلم الذي لحق بشيعة العراق.

لكن قد يكون من نافلة القول التذكير بحقيقة مهمة أخرى ألا وهي ان التعصب المذهبي عند المسلمين العرب هو اضعف بشكل عام منه عند غير العرب من المسلمين. فالشيعي الفارسي أكثر تعصباً لتشيعه من الشيعي اللبناني والشيشاني السني أكثر تعصباً لسنيته من السني المصري على سبيل المثال. وسبب ذلك كما أعتقد هو ان العربي يعد الإسلام جزءً من هويته وليس كل هويته فهو ليس بحاجة لتأكيدها في كل مناسبة أما المسلم من غير العرب فإن الإسلام اصبح هويته فالتركي لم تكن له هوية قبل الإسلام وإن كانت فقد ضاعت، والباكستاني ليس له هوية غيرالإسلام فبدونها هو هندي، وكذلك الأمر بالنسبة للفارسي والشيشاني.

إن إقتناع شيعة العراق بهذه المظلومية إنعكس سلباً على الواقع السياسي العراقي بعد إنهيار الحكم العثماني. فقد إعتكف شيعة العراق بشكل عام عن المشاركة الفاعلة في العراق الجديد الذي ولد على يد المحتل البريطاني. ولعبت التقية والمرجعية دوراً كبيراً في هذا. فقد ساد إعتقاد بأن هذه الدولة الجديدة ليست سوى إمتداد للنظام العثماني المتعصب مما يلزم الحذر في التعاون معها وتعرض النفس للأذى أي ان التستر منها كان أسلم لحماية النفس من المجاهرة والمشاركة. كما إن المرجعية لعبت دوراً أكبر حين رأت في أغلبها بوجوب مقاطعة الحكم المناقض للإسلام حسب رأيها والذي اقامه المحتل في العراق. 

وهكذا نشأ النظام الملكي في العراق معتمداً في أغلبية إدارته على ضباط من أهل السنة من بقية الجيش العثماني ومديرين تدربوا بشكل أساس على يد العثمانيين، أي إنه كان بشكل ما إمتداداً للحكم العثماني في لونه وإن لم يكن إمتداداً في مذهبيته. وقد قادت هذه الحقيقة الى أن تتحول المؤسسة العسكرية إلى مؤسسة يقودها ضباط من أهل السنة. وحيث إن العسكر تحكموا بالعراق الجديد لفترة طويلة، فحتى نوري السعيد كان إمتداداً لحكم العسكر، فإن ذلك يعني بالضرورة هيمنة السنة على المسرح السياسي العراقي طيلة القرن العشرين.

لكن تغيراً طرأ على المسرح السياسي العراقي بين الحربين العالميتين فقد بدأ شيعة العراق في المشاركة بشكل أكثر فاعلية في الحياة السياسية عامة وإن لم يكن مقصوداً من منظار مذهبي بل كان نتيجة طبيعية لتعلم أبنائهم ولولادة حركات سياسية في العراق تجاوزت الخطوط المذهبية والطائفية. فنشأ جيل من خريجي الجامعات المهنيين ممن لعب دوراً مهماً في عراق ما بعد الحرب العالمية الثانية. فدخل الشيعة العراقيون معترك السياسة التي كانت محصورة بأهل السنة فكان لهم قصب سبق فيها. فحين قامت ثورة 14 تموز التي أنهت الحكم الملكي الذي نصبه المحتل البريطاني فإن ثلاثة من أكبر أحزاب العراق السياسية كان يقودها شيعة. فالأمين العام للحزب الشيوعي العراقي كان سلام عادل وأمين سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي كان فؤاد الركابي وزعيم حزب الإستقلال كان محمد مهدي كبة وثلاثتهم من شيعة العراق. وهذا يعكس مقدار التغير السياسي الذي وقع في العراق خلال ثلاثين عاماً بين تأسيس الدولة العراقية الحديثة وثورة تموز. فقد اصبح شيعة العراق جزءً من الواقع السياسي الفاعل في العراق كما يقتضيه واقع نسبتهم في المجتمع وحقهم الطبيعي في المشاركة في الوطن وليس من باب إنتمائهم المذهبي.

إلا أنه بموازاة ذلك كان أثر التقية يأخذ طريقه في جيل جديد من المتعلمين الذين لم يعودوا يرضون بأن يكونوا على هامش الحدث والمسرح. وهؤلاء ولدوا وتربوا كما هو حال الشيعة في كل العالم على نظرية الظلم الكبير الذي وقع في الإسلام لأهل البيت في شهادة سبط النبي الأكرم الحسين بن علي. وهذه النظرية تقود بالضرورة إلى أن الظلم لم يلحق أهل البيت فحسب وإنما لحق كل من شايعهم على مد العصور وهذا يعني شيعة العراق في القرن العشرين. إن من لا يقدر أن يفهم عمق هذه النظرية وأصالتها في فهم تركيب شخصية الشيعي لا يمكن له أن يفهم تأريخ العراق خاصة وتأريخ الشيعة عامة. ذلك لأن الشيعي يتعلم مع الرضاعة قصة شهادة الحسين وبالطريقة المأساوية التي تروى بها، ويتعلم أن أهل السنة من المسلمين إما شاركوا في تلك الجريمة أو سكتوا عنها، فإذا رد أحد من أهل السنة بأن هذا غير صحيح لأن أكثر أهل السنة يستنكرون قتل الحسين ويعدونه شهيداً فإن سؤال الشيعي عن سبب تمجيد أهل السنة إذن  لدولة بني أمية لن يجد عند السني جواباً شافياً! فنشأ في العراق بعد الحرب العالمية الثانية جيل شيعي يطمع بوعي أو بدون وعي في أن يؤكد هويته الشيعية. ولم يكن شيوعياً كي يلتحق بسلام عادل في الحزب الشيوعي العراقي ولم يكن قومياً كي يلتحق بفؤاد الركابي في حزب البعث. فتلقفه شاه إيران الطامع في تجديد مجد فارسي عبر عنه أكثر من مرة ولعل أبرزها كان في إحتفال البذخ والترف الكافر في 1971 في احتفال تأسيس الامبراطورية الفارسية قبل 2500 عام. فساهم في ولادة حركة سياسية شيعية جديدة ليس لها مبدأ سياسي سوى التشيع. فهي وإن كانت تتحدث عن الظلم في العراق عامة وظلم البعثيين خاصة إلا أنها لم تقدم مشروعاً سياسياً قط للدولة التي تؤمن بها. وهكذا فإن ما ولد عن تلك الحركة السياسية والتي تحولت لاحقاً إلى حزب الدعوة ما زالت دون برنامج سياسي.

وقد دعمت المرجعية الدينية في النجف هذا التحرك وباركته، ذلك لأسباب عدة أولها أن المرجعية في النجف كانت وما زالت صهيونية الهوى وإن أدعت أنها لا تتدخل في السياسة. وقد اجملت هذه الحقيقة فتوى محمد محسن الحكيم عام 1959 بتحريم التعامل مع الشيوعيين. وقد وجدت المرجعية في دعمها للحركة السياسية الشيعية الناشئة تعزيزاً لموقعها وقوة تستطيع بها أن تساوم اي نظام سياسي كما فعل أبو القاسم الخوئي عام 1991. وهي، أي المرجعية الشيعية، كانت في أغلبها بإستثناء قلة، إما موالية للشاه وإما راضية عنه.

وظل حزب الدعوة موالياً لشاه إيران طيلة حكم البعث في العراق. لكنه ما أن سقط الشاه حتى وجد حزب الدعوة أن ولاءه للتشيع هو القضية الوحيدة فلا مانع من الإنخراط في ركب الخميني الصاعد وهكذا كان، رغم أنه لم يكن مؤمناً حقاً بنظرية ولاية الفقيه ولا بمعاداة الصهيونية والتي كان حليفها حتى سقوط الشاه، والتي عاد ليتحالف معها بعد وفاة الخميني وجاهر بتلك العمالة لها قبل غزو العراق وبعده، حين ولته الصهوينة أمر العراق نيابة عنها.

وإذا قال قائل بان الحركة السياسية الشيعية في العراق تتجاوز حزب الدعوة فهو صحيح لكن ذلك لا يحدث فرقاً كبيراً في النتيجة. ذلك لأن الحركة السياسية الشيعية التي طفحت في عراق ما بعد الغزو الصهوني عام 2003 تشترك أغلبها في مواصفات معينة وهي:

1.   انها جميعاً جاءت مع الغزو الصهيوني إما رفيقة وأجيرة له وإما برضاه ومباركته، فقد يكون من قبيل الإستخفاف بعقول الناس أني قول قائل أنه شارك في الحكم بعد الإحتلال برغم أنف المحتل!

2.   ليس لدى اي منها مشروع سياسي للعراق.

3.   ليس لدى أي منها نظرية إقتصادية فالحديث عن إقتصاد إسلامي يقوم على آراء السيد محمد باقر الصدر هو هراء لأن الرجل لم يضع نظرية إقتصاد إسلامي قط.

4.   ليس لدى أي منها مشروع قومي يتعلق بعروبة العراق والوحدة العربية بل إن أغلبها معادية للوحدة العربية بسبب أن هذه إذا تحققت ستعني ضياع الهوية الشيعية في بحر من التسنن!

5.   التأييد الكامل للمشروع الصهيوني في الشرق الأوسط الجديد القائم على دول الطوائف. ويتجلى هذا واضحاً في موقف الحكومة العراقية من العدوان على سوريا حيث تؤكد بغداد أنها تقف على مسافة واحدة من حكومة دمشق ومن الإرهاب الذي تدعي أنها تقاتله في العراق!

6.   مساهمتها في خلق فساد إداري ومالي في العراق خلال توليها الحكم هذه السنوات مما لم يشهده العراق في أحلك ساعاته وما جعل العراق في آخر القائمة للفساد في العالم على وفق تصنيف أسيادهم الأمريكيين والأورببين!

ويمكن الإستمرار في هذا التوصيف لكنه كله يصب في حقيقة واحدة مفادها أن هدف كل الحركات السياسية الشيعية في العراق اليوم واحد وهو الإنفراد الحكم للاستحواذ على أكثر ما يمكن من ثروات العراق، وإلا فما سبب اختلاف هذه الحركات إذا كانت جميعها لا مشروع سياسي أو إقتصادي لها وكلها تطمع أن تبني حكماً شيعياً في العراق؟ أي بمعنى آخر إذا كان هدفها واحداً فلماذا لا تتفق على تقاسم الحكم وتريح وتستريح؟

وحيث إنه يمكن الحديث عن التشيع السياسي في أرض العرب بمعزل عن الحديث عن نظرية ولاية الفيه ودورها في التشيع السياسي العربي، فلا بد لي أن أذكر بما أوردت سابقاً بأني أؤمن بأن الإسلام هو دين العرب ولهم وحدهم ولن أعيد هنا ما كتبته في هذا، لكني لا بد أن أذكر لأني أعتقد أنه رغم الدور الذي لعبه الفارسي والعثماني وما يحاول أن يدخله الطارؤون من ألباني وشيشاني وهندي وباكستاني وبشتوني ليس من الإسلام في شيء لأنه دخيل من أجنبي على الأصيل! إلا أن هذا لا يغير حقيقة أن هذا الدخيل لعب ويلعب دوراً كبيراً في الإسلام السياسي  السني والشيعي على السواء. ومن ذلك ما فعلته نظرية ولاية الفقيه من أثر في التشيع السياسي العربي في العراق ولبنان.

وهذا ما سأحاول الحديث فيه في الحلقة القادمة إن شاء الله..

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

16 نيسان 2014

16 جمادى الآخرة 1435

www.haqalani.com

===============

 

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الرابعة عشرة

ليست ظاهرة "ولاية الفقيه" التي أصبحت على كل لسان خلال الثلاثين عاماً المنصرمة ظاهرة حديثة في الفكر الإسلامي عامة والسياسي خاصة. ذلك لأنها تجد جذرها في الفقه الإسلامي حيث كتب فقهاء المسلمين منذ قرون أن الإسلام ليس ديناً حسب إذ هو دين ودنيا وإنه جاء بالحل لأمور الناس في الدنيا والآخرة. وترتب على هذا أن الفقيه أصبح أقدر من غيره على توجيه الناس في كل الأمور الخاصة والعامة. ونظرة الإستصغار للناس هذه وجدت تجاوباً مختلف الدرجات بين مذاهب الفكر السياسي الإسلامي وتجلت بشكل وأضح في نظريتي "الحاكمية لله" عند الإخوان المسلمين و "ولاية الفقيه" عند أتباع الخميني المعاصرين. ويمكن إيجازها بأن على الناس إتباع رجل يقوم مقام النبي أو الإمام في جميع أمور الدنيا والدين، فيكون رأيه غير قابل للطعن أو الإعتراض وفوق القانون وفوق أية سلطية دنيوية أخرى.  وهذا يشبه إلى حد كبير مفهوم "البابا" لدى الكنيسة الكاثوليكية.

وحيث إن الإخوان المسلمين فشلوا في أول محاولة بائسة لهم في حكم مصر فإننا لسنا قادرين على تقويم تطبيق نظريتهم. إلا أن الأمر مختلف بالنسبة لولاية الفقيه والتي تجاوز تطبيقها ثلاثين عاماً في إيران. إلا أن هناك فرقاً آخر لا يقل أهمية بين الحاكمية لله وولاية الفقيه. فحركة الإخوان المسلمين ولدت في أعقاب سقوط الدولة العثمانية السنية المذهب بينما ولدت ولاية الفقيه في ظل التقية والمرجعية الشيعية. فالأولى كانت وما زالت تعيش على أنقاض تجربة عمرها قرون تعبت وأتعبت. أما الثانية فهي نظرية جديدة في الفقه الشيعي ليس لها سابقة تقتات منها ولا حتى تصور عما ستؤول إليه.

وقد ولدت ولاية الفقيه داخل نظرية التقليد الشيعي والتي سبق أن بينت أنها نفسها حديثة عهد. لكنها، أي ولاية الفقيه، إختلفت مع المرجعية التقليدية في أنها أعلنت نهاية التقية وذلك بالمجاهرة بالتشيع أولا وبإعلان أن الفقيه ليس ولياً فقط في أمور الدين بل في أمور الدنيا كذلك. أي ان الفقيه أصبحت له الولاية العامة. وقد يكون في هذا بعض التبسيط ذلك لأن الفرق الحقيقي بين المرجعية التقليدية وولاية الفقيه هو أن الأولى كانت تعاني من نوع من النفاق بينما إمتلكت الثانية الجرأة على الخروج عن هذا فصرحت وأعلنت. فالمرجعية التقليدية وإن ادعت بعدها عن أمور الدنيا والسياسة فهي في الحقيقة كانت تتدخل فيها وإن من طرف خفي، فاذا وجدت الوضع السياسي في صالحها فإنها كانت توجه مقلديها بالإستسلام للنظام بحجة التقية وإن وجدت  الوضع السياسي مخالفاً لما تريده فإنها كانت قادرة في السر على تأجيج الجمهور الموالي لها.

فولاية الفقيه التي يقال ان أول من كتب عنها كان أحمد النراقي المتوفي عام 1829م، ولدت حقيقة كتجربة عملية على يد روح الله الخميني، الفقيه الذي نفاه شاه إيران إلى العراق حيث عاش في النجف الأشرف ما بين عامي 1963 و 1979 حين طلب منه العراق أن يغادر إستجابة لطلب الشاه، في خطوة غبية اعتمدت على خطأ من قبل حكومة بغداد في قراءة المشهد السياسي الإيراني. ذلك لأن الخميني عاد من باريس بعد أشهر ليزيح الشاه ويؤسس دولة ولاية الفقيه الأولى في التأريخ.

وحيث إن ولاية الفقيه تقضي أن للفقيه القول الفصل في أمور الدنيا والدين فقد اصبحت السياسة في مقدمة سلطته وصلاحياته. لكن الفقه الجعفري ليس فيه قواعد تحدد أين يجب أن يقف الفقيه في أمور السياسة المعاصرة، فإذا كان واضحاً للفقيه الشيعي أن يقرر أين يقف من سياسة الدولة الأموية فهو أمر يمكن فهمه في ظل الصراع السياسي الذي اسسته قريش بين "بيت علي" و "بيت عائشة" منذ القرن الأول للإسلام. إلا أن الأمر يختلف في عصرنا الحاضر ذلك لأنه ليس واضحاً أين يجب أن يقف طرفا هذا الصراع السياسي في الصراع السياسي العالمي.  فقد وجد شيوخ الوهابية في جزيرة العرب أن من مصلحة المذهب أن يقف مع الصهيونية العالمية في مشاريعها السياسية وهكذا كان موقفهم منذ مائة عام وما زال. كذلك وجد أكثر المراجع الشيعية في النجف الأشرف وقم أن من مصلحة الشيعة الوقوف موقف المؤيد أو المهادن للصهيونية، وهكذا كان.

إلا أن روح الله الخميني إختلف مع الموقف السائد في المرجعية الشيعية من المشروع الصهيوني للعالم. ولست أرغب في الدخول في ما أعتقده سبب موقف الخميني ذلك، إذ أنه ليس له اثر كبير في  ما أنا بصدده. لكن المهم أن نفهم أن الخميني ظل طيلة حياته معادياً للمشروع الصهيوني فخرج على الشاه في ذلك وخرج على المرجعية الشيعية في النجف وقم ولبنان. وحين عاش منفياً في العراق فإنه لم يكن على وفاق مع المرجعية المتمثلة في أبي القاسم الخوئي. وهكذا فقد عارض الخميني و نظرية ولاية الفقيه التي إنتعشت على يده أغلب فقهاء الشعية في القرن العشرين...فعارضه في إيران حسين على منتظري ومرعشي نجفي وشريعة مداري، وعارضه في العراق ابو القاسم الخوئي وعلي السستاني وإسحاق فياض وبشير النجفي. كما عارضه في لبنان موسى الصدر ومحمد جواد مغنية، كل ذلك على سبيل المثال لا الحصر.

إلا أن الخميني كان لديه حس سياسي متميز فأدرك في سبعينات القرن الماضي أن الظرف الموضوعي للثورة في إيران قد نضج. فقد نشأ جيل من الفرس ممن ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية وشهدوا تجربة فشل مشروع مصدق ممن يطمحون للتحرر الحقيقي من الإستكبار الصهيوني العالمي الذي أمسك بهم كما أمسك بسائر المسلمين منذ الحرب العالمية الأولى. وكيف يمكن أن يوجد أفضل من ظلامة أهل بيت النبوة التي لحقت بالحسين وأهله وصحبه من نار تضيئ طريق الشهادة لتحقيق ذلك التحرر. هكذا جاءت ثورة الخميني مفاجأة للصهيونية والتي كنت وما زلت أؤمن أنها لو لم تمتلك القوة العسكرية لكانت من أغبى حركات التأريخ على الإطلاق. إن ما حدث في الفكر الإسلامي عام 1979 لا يمكن التقليل من أهميته واثره المتمثل اليوم في أكثر من مظهر. وقد لايكون ما حدث في العالم الإسلامي بالضرورة نتيجة طبيعية لثورة الخميني إلا أن الكثير مما حدث تأثر بشكل أو بآخر بما أحدثه الخميني من تغيير. فقد أوقد الخميني الأمل في الإسلام السياسي عامة فنشطت حركات وولدت حركات وأصبح  ماركسيون عرب يبحثون عن خط سياسي ينقلهم من ضياعهم الفكري وانتقل آخرون ليقاتلوا مع الأفغانيين، وكثير غيره. لكن أهم ما نتج عن ثورة الخميني بالنسبة للمشروع القومي العربي والصراع مع الصهيونية وبشكل جدلي حقيقي هو ولادة حزب الله في لبنان والتي سأعرضها لاحقاً بشكل أوسع.

لكني قبل ذلك لا بد لي من التوقف عند قضية أجدها ذات أهمية كبرى ذلك لأنها لم تفهم من قبل العرب ولم تفهم من قبل المسلمين من غير العرب وقد اخرجتها ثورة الخميني للعلن. تلك هي حقيقة أن الإسلام هو دين العرب تماماً كما ان اليهودية هي دين العبريين والنصرانية دين الآراميين. وهذه الحقيقة ليست من صنعي ولا تصوري لكنها حقية إلهية ومن أراد أن يعترض عليها فليراجع في ذلك رب العزة ويسأله عن السبب وإن كان السبب معروفاً لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وهذه الحقيقة تقود إلى أن اية ثورة أو تحرك أو قيادة للإسلام يجب أن تتم على ايد العرب وفي دارهم... ولهذا السبب كانت الدولة العثمانية مشروعاً فاشلاً. ولا ينفع حزب التحرير أن يطالب بعودة الخلافة العثمانية لتحقيق حلم الدولة الإسلامية، فإذا أراد حقاً دولة إسلامية فليطالب بعودة بغداد ودولة بني العباس أو شيئاً من ذلك...ففشل الدولة العثمانية سببه أنها لم تعرف من الإسلام إلا إسمه واستخدمته لتحقيق مشروع سيادة الإتراك على العالم المحيط بهم.. فافسدوا وخربوا وحين رحلوا لم يتركوا اثراً يمكن للعالم أن يشير إليه كمجد يعتد به.

 ومن هذا الفهم يبدو واضحاً خلل ثورة الخميني. فالخميني كما يعرف كل الذين عاصروه كان كارهاً للعرب بشكل عام. بل كان متعصباً ضدهم حتى انه كان يرفض الحديث بالعربية رغم علمه وإتقانه لها. ولست أدعي بهذا أنه كان عليه أن يتكلم بالعربية فالرجل من حقه أن يفخر بفارسيته كما يفعل كل إنسان ينتسب لقوم. لكنه كان يتحدث بالفارسية في أمور الإسلام والفقه وهو أمر لا يمكن أن يكون صحيحاً لأن القرآن لم ينزل بلغة الفرس وإن تمنى الخميني ذلك. "ولو نزلناه على بعض الاعجمين، فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين".  وقد يكون سبب حقده على العرب أنه يحملهم مسؤولية قتل الحسين وأهله، وهذا الشعور بالتجريم موجود عند طائفة من المسلمين من غيرالعرب. وقد نمى لدى الخميني ومن على شاكلته شعور بأن العرب ليسوا أهلا لقيادة الإسلام، وأنهم أي المسلمين من غير العرب أقدر على ذلك. هكذا إعتقد الخميني أنه قادر على قيادة المسلمين لبر الأمان. وهكذا نشأت فكرة تصدير الثورة الإيرانية خارج إيران، والتي أصبحت تشكل "فزاعة" يستعملها الصهاينة قبل غيرهم في العالم العربي.... ولا أقول ذلك لأني أعتقد بصحة مشروع تصدير الثورة الإيرانية الشيعية الهوية للعالم العربي ولكني أقول ذلك من باب الموضوعية في التعامل مع التأريخ... ذلك لأني لم اسمع كلمة واحدة من الذين كتبوا أو تحدثوا عن خطر تصدير الثورة الإيرانية للعالم العربي وهو يتحدث عن خطر تصدير الطورانية التركية الجديدة للوطن العربي! فهل إن العرب الذين حكمهم الأتراك بظلم إنتهى بالتجهيل و"التتريك" حتى كادت العربية أن تنسى في أرض الإسلام لا يخشون حقاً عودة تلك الظلمة ويخشون فقط خطر المد الفارسي؟ أم أن لهؤلاء الحريصين على العروبة "المتصهينة" فهم آخر للتأريخ؟

وليس غائباً على أحد أن ثورة الخميني فشلت في إيران ودليل ذلك أن إنتخابات رئاسة الجمهورية جاءت برئيسين مناهضين لنظرية ولاية الفقيه وإن إدعيا نفاقاً خلاف ذلك. فكل من خاتمي وروحاني يمثلان رأي رفسنجاني،  وهو وإن لم يكن فقيهاً، إلا أنه يمثل راي الفقهاء في إيران الذين يعارضون ولاية الفقيه... ويبدو أن أغلبية الشعب الإيراني يؤيدونهم في ذلك.

وليس غائباً على أي مراقب أن ثورة الخميني فشلت في إستقطاب متميز في العراق حيث كان يطمع هو أن تكون له قاعدة كبيرة بين المستضعفين، كما كان يحلو له أن يسميهم. ففي الحرب العراقية الإيرانية قاتل شيعة العراق بكل بسالة دفاعاً عن دولتهم دون نظر للإنتماء المذهبي فانتصر الولاء الوطني للولاء المذهبي. ولا يقولن أحد إنهم قاتلوا خوفاً من ظلم النظام فلا يمكن لأحد أن يرعب جندياً في ساحة القتال لا يرى أمامه إلا الموت!

أما بالنسبة للتحرك السياسي بين شيعة العراق فلم يكن فشل ثورة الخميني أقل وضوحاً. فالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الدعوة كلاهما وجد نفسه في خضم نصر الخميني مجبراً على ركوب الموجة فتبنى المجلس ولاية الفقيه وبايع حزب الدعوة الخميني إلا أن كليهما كان منافقاً في ذلك فالمجلس الأعلى مرتبط بالصهيونية للإرتباط التأريخي لعائلة الحكيم بها. أما حزب الدعوة فهو من نتاج الشاه وكيف يمكن لمن أنتجه الشاه أن يكون غير صهيوني. إن المبادئ السامية لا يمكن أن يحملها إلا إناس سامون. وهكذا كان فما أن غزى الصهاينة العراق عام 2003 حتى عاد كل من المجلس الأعلى وحزب الدعوة ليتقاسما السلطة مع غيرهم من الخونة الصهاينة. وحتى لا يقولن أحد أني متحامل عليهم فإنه أحيل القارئ لما قاله علي الخامنئي قائد الجمهورية الإسلامية. فقد نقل عنه قوله: " يدّعون بأنّ عليا إمامهم ولكنّهم لا يقولون ما يزعج أميركا."

ترى إذا لم يكن الخامنئي يتحدث عن المرجعية الشيعية في العراق وأحزابها الباسة فعن من كان الخامنئي يتحدث إذن؟

وحيث إن حقيقة أن غير العرب لا يمكن لهم أن يقودوا الإسلام، حتى إذا استعربوا، فإن ولاية الفقيه لا يمكن لها أن تستمر إذا لم تجد لها حضانة عربية. وقد تكون حالة حزب الله مؤشر على نجاح النظرية في إستقطاب حاضنة عربية، مما سأعرج عليه لاحقاً. لكن الأمل الكبير منذ عهد الخميني كان معقوداً على العراق. لكن النظرية فشلت في العراق وتكاد تفشل في إيران....

ففي العراق ورغم كل ما يقال ويشاع عن الهيمنة الإيرانية فإنها هيمنة سياسية مذهبية بمعنى أنها نجحت من خلال الترابط المذهبي بين مخابرات الدولة الإيرانية وبين الأحزاب الشيعية في العراق وليس بسبب إنتماء الأحزاب الشيعية العراقي لنظرية ولاية الفقيه...ولعل هذا التعقيد في العلاقة هو سبب صعوبة الفهم للعلاقة والتاثير الإيراني في العراق لدى البعض كما أنه يعطي البعض الآخر، ممن يفهمه على حقيقته، المقدرة على تبسيط الأمر ومحاولة تصوير العلاقة المعقدة هذه على أنها إتفاق أمريكي إيراني على تقاسم العراق في خطة محكمة كتبت منذ القدم.... والأمر كما يعرف أولئك المغرضون ليس كذلك! أما التأثير المذهبي لولاية الفقيه في العراق فيكاد يكون معدوماً. وهكذا تكون النظرية الجديدة قد فشلت في إيجاد الحاضنة التي كانت تؤمن بوجودها في العراق وتعتقد أن البعث كان السبب في كبحها.

أما في إيران فإن النظرية في إنحدار. وهذا لا يعني أنها ستموت قريباً لأن بيدها قوى عديدة... الحرس الثوري والذي يمثل ذراعها العسكري وما زال قوة جبارة قادرة على الدفاع عن الثورة كما يفهما الحرس ضد أي خطر داخلي أو خارجي. وهذا الحرس كما أسلفت يعتقد نفسه الأمين على الثورة وله رأي يتجاوز المؤسسات المنتخبة من قبل الشعب حتى إذا كان معها رأي الأغلبية ذلك لأن الثورة بمفهوم الحرس الثوري هي راي النخبة والأقلية في كل مراحل التأريخ. وهذه نظرية تأريخية سليمة. فما منثورة إلا وقادتها نخبة مؤمنة فليست هناك ثورة شعب لأن ما يقال عنه ثورة شعب هو تحريك للغوغاء لتسير في خط النخبة، وهي أي الغوغاء كثيرا ما تحبط المسعى إذا لم تقد بشكل سليم. وقد وصف علي (ع) هذه الحقيقة التأريخية في قوله: "الغوغاء إذا إجتمعوا خربوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا". وليس غائباً عن من يتابع المشهد في إيران أن يرى هذا الصراع المتنامي. لكن من يفهم حركة التأريخ يدرك سبب هذا الإنقسام في إيران اليوم والذي لم يكن قائماً في الصف نفسه قبل عشرين عاماً.

فالإيرانيون الذين خرجوا ضد شاه إيران وسقطوا في الشوارع خرجوا ضد حكم ظالم ومن أجل قضية إعتقدوها مشروعة. لكنهم لم يعودوا موجودين فجيل أبنائهم لم يشهد ولم يعش ظلم الشاه و لايعرف عن التجربة التي عاشها الآباء كي ينتموا لها. وهم أي هذا الجيل الجديد لديه طموح يختلف لأن التجربة مختلفة والوضع العالمي مختلف..... فهم لا يقدرون أن يفهموا سبب الحرب بين الجمهورية الإسلامية وبين الولايات المتحدة والتي يصورها كل ما حولهم من وسائل الإعلام والسينما والتلفاز على أنها دولة متحضرة و"ديموقراطية"... وأكثرهم غير معنيين بقضية فلسطين والقدس حيث تبدوا جميعها، وإن كان فيها ظلم كبير، بعيدة عن واقعهم وحاجاتهم الآنية. إن القثورة ابية ثورة تموت إذا لم تخلق لكل جيل تحد جديد تضع ذلك الجيل أمامه فتجبره على مواجهته... وجيل الإيرانيين الذي ولد بعد الحرب العراقية الإيرانية ليس أمامه تحد يحتاج أن يرقى لمواجهته... وهكذا تجد دولة ولاية الفقيه نفسها غير قادرة على إقناع أكثر الشعب الإيراني أن عليه أن يتحمل المشقة من أجل الثبات ومواجهة أمريكا لأنه لا يعتقد صدقاً أن أمريكا تواجهه بهذه الخيارات.... فإذا أرادت ولا ية الفقيه أن تشد الشعب الإيراني للثورة فما عليها إلا أن تخلق مواجهة ساخنة حقيقية وعندها سوف يلتف الشعب حولها كما فعل عام 1980 حين دخل الجيش العراقي أرضها وكانت إيران على حافة  الهاوية. إن الثورة اية ثورة بحاجة أن تجدد نفسها كي تستمر، ولا يمكن لها الإستمرار بالحديث عن أخطارعميقة في تحليل سياسي معقد مهما كان موضوعياً.... لقد فشلت الثورة البلشفية، وكانت من أكبر الثورات الفاعلة في التاريخ المعاصر، لأنها لم تستطع أن تجدد نفسها فلماذا ستنجح ولاية الفقيه إذن؟

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

5 مايو 2014

5 رجب 1435

www.haqalani.com

===================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ - الحلقة الخامسة عشرة

كنت قد كتبت في مقالي السابق أن من أهم نتائج ولادة ولاية الفقيه في إيران بالنسبة للوطن العربي كانت ولادة حزب الله، وذلك لما لعبه الحزب المذكور وما زال يلعبه في المعركة القومية مما يفوق حجمه الحقيقي ويتجاوز المسلمات العسكرية والسياسية التي سادت في المنطقة لعقود. ولا بد للمتابع السياسي والتأريخي أن يتوقف ليسأل عن سبب نجاح ولاية الفقيه في استقطاب جمهور لها في لبنان وفشلها بالمقابل في العراق. وهذا بعض ما سأحاول البحث فيه.

إن التشيع في لبنان ليس حديث عهد. فجبل عامل، والذي يختلف تعريف حدوده الجغرافية في كل عصر، عرف التشيع منذ القرن الرابع الهجري. بل إن هناك من يذهب أبعد من ذلك ليقول بان التشيع في جبل عامل ولد على يد الصحابي أبي ذر الغفاري الذي كان يخرج من الشام ليتجول ويحدث الناس في مناطق مثل جبل عامل وذلك قبل أن يبعثه الوالي معاوية بن أبي سفيان مخفوراً الي الخليفة عثمان بن عفان لينفيه الأخير إلى الربذة حيث مات وحيداً مصداقاً لقول رسولنا الأكرم (ص) "لله درك يا أبا ذر تعيش وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك"!

وأيا كانت الرواية فإن التشيع في جبل عامل قديم قدم إسلام الناس في تلك الأجزاء من بلاد الشام، أي أنه ليس وليد حكم بني حمدان أو حكم فاطمي أو مد فارسي كما يتصور البعض. ولا يصح أن يستغرب أحد من هذه الحقيقة فقد نقل عن المقدسي، وهو من أهل القرن الرابع الهجري، أنه قال "كان أهل طبرية ونصف أهل قَدَس وكذلك نصف أهل مدينة نابلس وأكثر أهل بلدة عمّان شيعة". أما سكان جبل عامل فإن كتب اللغة والتأريخ وما يرونه هم عن أنفسهم تشير جميعها لحقيقة واحدة. فقد كتب إبن منظور في "لسان العرب" في باب "عمل":

"قال الأَزهري: عاملة قبيلة إِليها يُنْسَب عَدِيُّ بن الرِّقاع العامِليُّ، وعامِلة حيٌّ من اليمن، وهو عاملة بن سَبإٍ، وتزعم نُسَّاب مُضَر أَنهم من ولد قاسط؛ قال الأَعشى:

 أَعامِلَ حَتَّى مَتى تَذْهَبِين إِلى غَيْرِ والدِكِ الأَكْرم؟

ووالِدُكُم قاسِطٌ، فارْجِعوا إِلى النسب الأَتْلَد الأَقْدَم"

كما كتب القلقشندي:"جبل عاملة وجبال عاملة وجبل الخيل وجبل الجليل وبلاد بشارة والبشارتين، تسميات لمسمى واحد وهو جبل عامل، نزله بنو عاملة بن سبأ  من عرب اليمن عند تفرقهم بسيل العرم فعرف بهم وهو جزء من لبنان".

وكتب أبو الفدا: "بنو عاملة بطن من بطون سبأ وهي قبيلة عربية يمنية قديمة هاجرت من بلاد اليمن سنة 300 قبل الميلاد، بعد الطوفان وخراب سد مأرب ونهاية مملكة سبأ، ونزلوا بالقرب من دمشق في جبل هناك يعرف بجبل عاملة."

وأياً كانت صحة النسب فإن النتيجة الوحيدة هي أن أهل جبل عامل هم من العرب الأصيلين الذين سكنوا المنطقة التي أسميت لاحقاً باسمهم لقدمهم فيها وأنهم تشيعوا منذ صدر الإسلام. وإدراك هذه الحقيقة مهم جداً لفهم سبب أين يقفون اليوم من الصراع العربي الصهيوني أولاً وسبب إختلافهم عن شيعة العراق في ذلك ثانياً. ذلك لأن شيعة لبنان عاشوا كل حياتهم وسط محيط عربي فمن الشمال والشرق والجنوب أحاط بهم عرب من المسلمين السنة والدروز ومن النصارى. أي أنهم حين أضطهدوا في حكم الغزاة الصليبيين الأوربيين وحين أضطهدهم الحكم العثماني الجائر ضد كل الشعوب، لم يكن لديهم سوى الإنتماء العربي ملاذاً يلوذون به. فقد وجدوا هم قبل غيرهم أن المشروع القومي العربي هو التعبير الصحيح عن إسلامهم وتشيعهم.

وهنا وقع الإختلاف مع شيعة العراق ذلك لأن شيعة العراق وجدوا في الهروب من الإضطهاد المذهبي العثماني ملاذاً لهم في التقرب من الدولة الصفوية الشيعية في إيران. وهكذا فإن الإلتصاق الجغرافي وكثرة المراقد الشيعية المقدسة في العراق قادت لاختلاط طويل وتزاوج بين شيعية العراق وشيعة إيران. وهذا قاد بالتدريج لشعور متنام لدى شيعة العراق بالقرب من إيران. وهكذا ضعف الإنتماء العربي لدى شيعة العراق وحل محله الإنتماء المذهبي الذي وجد ايران أقرب له من سورية على سبيل المثال. وليس من شك في أن الحكم العثماني وتمييزه ضد الشيعة ساهم كثيرا في دفعهم لهذا الإنحياز. أما شيعة جبل عامل فلم يمروا بوضع مشابه فقد عاشوا في كل الأوقات في محيط عربي ولم تجبرهم لا الجغرافيا ولا التأريخ على الإبتعاد عن الإنتماء العربي. وهكذا نجد الشعور القومي لدى جمهور شيعة لبنان حاداً ومتميزاً خلاف قوته في العراق. ولست أعني بهذا إنعدام الشعور القومي لدى شيعة العراق فقد سبق وبينت أن قيادات قومية متميزة في العراق كانت من الشيعة لكنها كانت وما زالت نخبة وليست جمهوراً، فالحقيقة هي أن جمهور الشيعة في العراق ليس لديه حماس كبير للإنتماء للمشروع القومي العربي كما هو حال جمهور شيعة لبنان المتمثل في حزب الله وشعبيته.

وليس من الأمانة التأريخية أن يدعي من يدعي أن سبب هذا الإختلاف هو سياسة البعث التي ألبت جمهور الشيعة في العراق... فربما لم تساعد سياسات البعث خلال ثلاثين سنة من الحكم على تغيير هذا الواقع إلا أن جذوره أعمق وابعد من حكم البعث. وقد تشرح هذه الحقيقة للعربي المراقب للمشهد السياسي العراقي سبب خلوه اليوم من حزب واحد يتبني مشروعاً قومياً عربياً في الوقت الذي تكاد الأحزاب الكردية كلها أن تكون أحزاباً قومية. كما أن البعث في سوريا متحالف مع حزب الله، وهو ما ينفي عن البعث أنه مسؤول عن ابتعاد الشيعة عن المشروع القومي العربي.

وعاش شيعة لبنان قروناً وهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية. فالدولة العثمانية كانت تميز ضد الشيعة فتستخدم السنة في الوظائف دون الشيعة. أما النصارى فقد نالوا حماية الفرنسيين مما أعطاهم نصيباً كبيراً في إدارة لبنان حتى قبل سقوط الدولة العثمانية. وظل الشيعة في لبنان مستضعفين لفترة طويلة. إلا أن هذا الوضع بدأ بالتغير في القرن العشرين فقد لعب كل من التعليم والمرجعية الدينية دوراً مهماً في تنبيه الناس لحقوقهم وللطرق التي اتبعتها شعوب الأرض الأخرى لنيل حقوقها.

وأول تحرك سياسي شيعي منظم في لبنان ولد في حركة "أمل". فقد أطلق السيد موسى الصدر الذي كان رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان عام 1975 ما أسماها حركة المحرومين (أمل) للدفاع عن الشيعة في لبنان في التصدي بشكل أساس للإعتداءات الإسرائيلية المستمرة على جنوب لبنان دون حماية من الدولة اللبنانية الفاشلة والمنشغلة بالفساد وصفقات السياسة. وكانت علاقة "أمل" بشاه إيران جيدة كما كان متوقعاً حيث كان شاه إيران الحاكم الشيعي الوحيد في العالم كما ان السيد موسى الصدر جاء لبنان من قم بمباركة الشاه ولا بد أن لشاه إيران دوراً في منح الصدر الجنسية اللبنانية في وقت قياسي.

فلا عجب أن الخميني حين حكم إيران عام 1979 لم يكن متحمساً كثيراً للسيد الصدر، وزاد في النفرة أن الأخير لم يكن من المؤمنين بنظرية ولاية الفقيه التي جاء بها الخميني كحل وحيد للدولة الإسلامية. ودليل تلك النفرة بين الجانبين أن الخميني لم يستجب لمطالب أمل في أن يعمل على أن تعيد ليبيا السيد موسى الصدر الذي احتجزته وأغلب الظن أنها قتلته لاحقاً، رغم أنه، أي الخميني، كانت له علاقة جيدة مع، وتاثير كبير على، معمر القذافي.

ثم غزت إسرائيل لبنان واجتاحت الجنوب ووصلت بيروت في أول غزو وتطويق لعاصمة عربية منذ سايكس بيكو. وكان الجنوب يغلي ولم تتمكن حركة أمل من مواجهة الغزو لأنها لم تكن قد أسست فعلاً على قواعد ثورية، وما زالت حتى اليوم غير ثورية. وكان لا بد من أن يلد مشروع يقوم يملئ هذا الفراغ الذي خلقته أمل في أنها أدعت التصدي للهجمة الصهونية لكنها لم تقدر حقاً على التعامل معها. والضرورة التأريخية تخلق الحدث. وهكذا كان فولد حزب الله، ظاهرة فريدة في التأريخ السياسي الديني العربي.

ذلك لأن الشباب الشيعي اللبناني لم يكن في الحقيقة معنياً كثيرا بنظرية ولاية الفقيه وجدواها، فالمشكلة لديه كانت التصدي للغزو البربري الصهيوني الذي يبتلع الأرض والـتأريخ والثقافة.... ولم يجد هؤلاء الشباب الثائرون في جنوب لبنان وبيروت نظاماً سياسياً عربياً أو حركة قومية تقدر على منحهم الدعم الذي يريدون من أجل قيامهم بمهمة مواجهة الصهيونية. لكنهم وجدوا ضالتهم خارج الأرض العربية في إيران حيث كان الخميني يصرح في كل مناسبة أن ولاية الفقيه تعد الصهيونية العالمية سيدة الإستكبار العالمي وعدو المستضعفين... وشيعة لبننان كانوا من المستضعفين ضحية ذلك الإستكبار العالمي الذي احتل أرضهم وسحق قراهم وأحرق التين والزيتون! وهذا يعني أن حزب الله لم يلد لأنه كان يؤمن بولاية الفقيه حقاً كحل لمشاكل الأمة لكنه ولد لأنه أراد حل مشكلة الأمة المهددة في وجودها فوجد ولاية الفقيه تلائم هذا فتبناها.

فليس الإيمان بولاية الفقيه هو ما ألجأ حزب الله للخميني... بل كون ولاية الفقيه هي الحركة السياسية الوحيدة أنذاك التي جعلت التصدي للمشروع الصهيوني هدفاً.... أي إن حزب الله لم يأت من الإيمان بولاية الفقيه لمواجهة إسرائيل بل الحاجة لمواجهة إسرائيل هي التي ألجأت حزب الله لولاية الفقيه.. وفهم هذه الحقيقة مهم جدا لفهم العلاقة بين الحزب وإيران كدولة.. والفرق بين تلك العلاقة والعلاقة بالفقيه... فحزب الله حزب عربي عروبي وليس فارسياً.. وهذه الحقيقة ينتج عنها تباين في المواقف يضطر الحزب لتجاوزها من أجل القضية الأكبر.

ومن ذلك العلاقة مع الأحزاب الشيعية في العراق. ففي الوقت الذي تنشط فيه المخابرات الإيرانية في دعم وتحريك هذه الأحزاب، يجد حزب الله حرجاً في إقامة علاقات متينة مع أحزاب شيعية في العراق يقتضي الإنتماء المذهبي التقارب معها لكن العقيدة السياسية التي يؤمن بها الحزب في مناهضة الصهيونية تقضي الإبتعاد عنها لإرتباط تلك الأحزاب الشيعية العراقية بالصهيونية طوعاً وبشكل مباشر وليس عن جهل ولا بالواسطة. ولا يخفى على من تابع ويتابع العلاقة بين حزب الله والأحزاب الشيعية العراقية أن الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، لم يثمن دور شخصية سياسية واحدة من شيعة العراق في أي خطاب له خلال السنوات العشر الماضية، بل إنه ذهب أبعد من ذلك فتحاشى مقابلة أي من رجالاتهم الذين يزورون لبنان بشكل منتظم بحثاً عن مؤتمر هنا يبيض وجوههم السوداء أو مقابلة تلفاز يظهر فيها ثرثارهم الذي يحسن إستعمال كلمات في جمل غير مفيدة!

وعلاقة حزب الله مع إيران علاقة معقدة لهذا السبب. وليس من المعقول تبسيطها بعبارت شاملة ولا بتحليل سطحي يستند لحدث ما أو واقعة معينة فهي أعقد من ذلك. فحين يجد حزب الله أن لا حرج في الاقتداء بالفقيه الإيراني القائد وفتاواه وآرائه فهو يستند في ذلك إلى أن الفقيه هو أساس المشروع الذي قام عليه الحزب في أن وجوده كله مرتبط بمحاربة الإستكبار العالمي المتمثل آنياً في دولة إسرائيل. والحزب في هذا مرتبط بالكامل بالفقيه ومن حوله من أجهزة كالحرس الثوري. لكن الحزب غير مرتبطً بالدولة الإيرانية ذلك الإرتباط ويجد نفسه حراً حتى في الإختلاف معها. وقد يجد نفسه يوماً مختلفاً مع الدولة الإيرانية إذا ما سار مشروع المعتدلين كما تسميهم الصهيونية والمتمثل اليوم في رفسنجاني/ روحاني في التصالح مع الولايات المتحدة على سبيل المثال، وإن كان هذا الإحتمال لايبدو ممكناً من الناحية العملية اليوم ما دام الفقيه ممسكاً بزمام الأمور. إلا أن الإحتمال قائم من الناحية النظرية في أن إيران الدولة قد تهادن الصهيونية العالمية يوماً ما إذا ما انتصر تيار المعتدلين فيها.

و لابد من التوقف قليلاً هنا للرد على التهم التي تكال لحزب الله وإتهامه أنه أجير وتابع لإيران. وهي في الغالب تأتي ممن يقف في التيار المعادي للشيعة، ووجود هذا التيار ليس موضع شك، تماماً كما أن هناك تياراً شيعياً معادياً للسنة. لكن أولاء الذين يوجهون التهمة لحزب الله بالعمالة لإيران لا يجدون حرجاً في تمجيد الدولة العثمانية والولاء لها. وهم في ذلك محقون إذا ما اقتنعوا بأن الإسلام دين أممي وليس فيه لقومية ولاية على قومية أخرى مما يجعل الحكم التركي العثماني مقبولاً ومشروعاً. وبعضهم ذهب أبعد من ذلك فدعى إلى الإقتداء بحزب العدالة الحاكم في تركيا اليوم بسبب جذوره الدينية وإن كان الحزب المذكور متحالفاً مع الصهيونية ومعترفاً بها. فإذا كان الحال كذلك فما هو الضير في أن يكون الخليفة فارسياً أو شيشانياً أو باشتونياً؟ أي أين الخلل في أن يقتدي حزب الله بقائد إسلامي إيراني إذا كان جائزاً الإقتداء بقائد إسلامي تركي؟

إن ولادة حزب الله كانت حدثاً كبيراً في لبنان. لكن الحدث سرعان ما تجاوز حدود لبنان ليصبح قوة فاعلة في الصراع العربي الصهيوني. فقد انتفع الحزب من تجربة الحرس الثوري الإيراني الذي ساهم في تدريبه وتجهيزه وطور عقيدة عسكرية لم تعرفها لا جيوش العرب ولا حركات التحرر التي عملت في القرن العشرين. وقد كان لهذه المقدرة في تطوير خطط سوق وتعبئة غير معروفة أثراً كبيراً في تغيير قواعد اللعبة من قبل العدو الصهيوني. فقد تعود هذا الأخير أن يعتمد على قوته الجوية الضاربة التي تمكنه من قصف ساحة القتال دون إعتراض من أية قوة مقاومة كي يتمكن بعد ذلك من إرسال قواته البرية وكأنها في نزهة لتأخذ أرضنا بعد أن تكون قوته الجوية قد حيدت دفاعاتنا وشلت قدرات قواتنا المكشوفة دون غطاء جوي. لكن حزب الله خلق قواعد جديدة للقتال لم يستطع العدو الصهيونى التكيف معها حتى اليوم وقد أثبتت حرب التحرير عام 2000 وحرب 2006 هذه الحقيقة. ذلك لأن حرب التحرير الشعبية اصبحت ذات مفهوم جديد لدى حزب الله مما ليس بيد جيش العدو مقدرة على التعامل معها. فسلاح الجو الذي ينفع في ضرب المطارات وقواعد الجيوش الثابتة والكبيرة ليس له أثر كبير ضد مجموعات صغيرة من المقاتلين تتحرك في أنفاق... وسلاح الدبابات الإسرائيلية المتطورة اصبح عاجزاً عن مواجهة صواريخ يحملها صبية بعقول رجال..... لكن الأهم من كل ذلك هو نجاح حزب الله في استخدام الصواريخ التي لا تقل، بل ربما، تزيد خطورة على سلاح الطيران في إيقاع الأذي بالعدو بأقل كلفة مالية وعدم حاجة لتدريب طيارين ومن يسندهم!

وحيث إن الهدف هنا هو ليس البحث في إمكانية حزب الله على القتال قدر ما هو إثبات إنفراده عن بقية الحركات الدينية في نقل نظرية الجهاد من الشعارات إلى التنفيذ الحقيقي ضد العدو الأوحد للأمة العربية، فإني أكتفي بالقول إن ظاهرة حزب الله كانت وما زالت فريدة فقد غيرت قواعد الصراع.

وهناك أمر آخر أدخله حزب الله للمشروع القومي العربي. فقد خلق حزب الله حقيقة جديدة في الوقت الذي فشل فيه مشروع البعث في دولتي العراق وسورية تحقيقها، وذلك حين أكد قومية المعركة وتجاوزها للحدود الجغرافية فدخل مع الجيش السوري لمقاومة الإرهاب الصهيوني المتمثل في عصابات القاعدة والنصرة والجربا واللبواني المجاهر بصهيونيته. إن مشاركة حزب الله في الحرب الأهلية في سورية إلى جانب الجيش السوري لم تؤكد فقط إيمان الحزب بوحدة المعركة والمصير القومي بل إنها ألغت حدود سايكس بيكو، مما أثار حفيظة وإعتراض الصهاينة خارج لبنان وداخله، ذلك لأن الصهيونية تعد حدود سايكس بيكو مقدسة لا يمكن تجاوزها حتى إذا كان من نتاجها جمهورية "البطيخ" اللبنانية.

إلا أني ما زال لدي، رغم كل تقديري العميق لما قدمه حزب الله ويقدمه من تضحيات ونماذج في التفاني في الدفاع عن الأمة العربية، أكثر من سؤال عن إحتمالات التناقض بين الولاء للمشروع القومي العربي والإصطفاف الإسلامي عامة وليس بالضرورة الشيعي خاصة. وسبب هذا السؤال هو موقف الحزب من "حركة حماس" والتي وجد الحزب نفسه، تماماً كما وجدت إيران نفسها، غير قادر على إتخاذ موقف حاسم منها حين خانت سورية وإنتصرت لحركة الإخوان المسلمين عندما رفعت الأخيرة السلاح ضد الدولة القومية في سورية وساهمت في الحرب الأهلية وخراب سورية. فرغم ان حركة حماس إختارت أن تقف مع عدو لحليف حزب الله المتمثل في الدولة السورية إلا أن الحزب لم يقطع علاقته بحماس بل حتى لم ينتقد سلوكها المشين. وظل يدعم الحركة محتجاً بأن الحركة الإسلامية في جوهرها معادية للصهيونية.

إلا أن هذا الإزدواج لا يمكن أن يثبت كثيرا أمام الزمن. فالحركات الدينية، ومنها حماس وحزب الله، تقوم على أساس أن الإنتماء الديني هو الأول وهكذا فعلت حماس لأن إلتصاقها بحركة الإخوان المسلمين كان أساساً لها بل هو أسبق حتى على تحرير فلسطين. ذلك لأن هدف المشروع الديني، أياً كان، هو إقامة دولة دينية وليس تحقيق التحرر الإنساني كما نفهمه نحن العلمانيون.  لذا فإن قيام دولة دينية في غزة سيكفي حركة حماس لزمن طويل وقد تسكت عن مشروع التحرير إذا كان تحرير فلسطين سيؤدي لدولة فلسطينية علمانية..... وهكذا كان حال الإخوان المسلمين حين حكموا مصر للفترة القصيرة.... فقد زعموا أن مواجهة الصهيونية يمكن أن تؤجل لحين بناء الدولة وأن احترام معاهدات الذل مع العدو ضروري من أجل بناء تلك الدولة...فلا عجب أنهم فشلوا... ذلك لأن عامة الجمهور ليسوا معنيين ببناء دولة الإسلام قدر تطلعهم للتحرر والحرية وحق العمل وضمان التعليم والصحة وحد أدنى من عيش كريم.....

فأين سيقف حزب الله إذا أمتحن في الخيار في الوقوف مع المشروع القومي العربي أو مع المشروع الفارسي حين تزول سلطة ولايه الفقيه في إيران وتصبح إيران، كما يحق لها، دولة قومية قوية في المنطقة؟

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

12 أيار 2014

12 رجب 1435

www.haqalani.com

 

==================

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟ -  الحلقة السادسة عشرة

 قدمت في الحلقات السابقة عرضاً موجزاً لواقع مشروع الإسلام السياسي، وبينت فيه رأيي بان الإسلام السياسي اليوم هو نتيجة قناعة قادة هذا المشروع بأنه يستمد مشروعيته من الإرث الإسلامي الذي أثبت منذ القرن الأول الهجري أن الغزو وما يترتب عليه من قتل وخراب وإغتصاب ليس فقط مسوغاً بل هو واجب من أجل نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في الأرض. وقد استمد قادة المشروع الإسلامي المعاصر ومن خلفهم من المنظرين والمفتين ذلك من سياسات خلفاء المسلمين في حكم الأمويين والعباسين والعثمانيين.

كما بينت رأيي المبني على آيات الكتاب المبين أن الإسلام لم يأت بأمر الغزو أو القتل، كما انه دين العرب أو من إستعرب. فإذا كان كذلك فليس هناك دعوة تلزم أي مسلم بنشر الدين، كما زعم عدد من المسلمين الأوائل.

ولست أطمح في ما أكتبه إعادة لكتابة التأريخ حيث إن التأريخ لا تعاد كتابته لأنه في الأغلب ليس ما حدث فعلاً ولكن ما يعتقد الناس أنه حدث، أي انه قناعات وليس بالضرورة حقيقة وهذا لا يعني أن كل تلك القناعات مغلوطة ولكنه قد يعني في الوقت ذاته أن بعضاً منها مغلوط وهو من صنع الخيال أو الآمال! إلا ان ما أكتبه هو بهدف فهم سبب ما يجري الآن في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة إذ ليس من المعقول أن يجتمع الناس من كل بقاع الأرض لخراب بلد لا علاقة لهم به، وبعضهم لا يعرف أين يقع ولماذا هم فيه سوى أن رجالاً يدعون أنهم يمثلون الدين قد سمموا عقولهم بالكره لأهل الشام أو لشيعة العراق. فقد يكون في فهم سبب ما يحدث ما يمكننا من العمل لإيقافه أو تلافي تكراره، مما يمكننا من الخروج من الوضع المظلم الذي يجد العالم فيه المسلمين اليوم.

إذ لا يكفي أن يقف بعض رجال الدين المسلمين ليقولوا للعالم ان ما يجري ليس من الإسلام في شيء. فإذا لم يكن من الإسلام في شيء فمن أين جاء ولماذا كل الذين يقتلون ويخربون ويهدمون في أرض الشام والعراق وأفغانستان وليبيا وتونس ومصر هم من المسلمين، وكيف تجمعوا وما الذي جمعهم ومن جمعهم؟ إن أمراً كهذا لا يحدث عن طريق الصدفة. فإذا كان القول بأن الإرهاب ليس من أصل الإسلام فإن على رجال الدين المسلمين وقادة المذاهب اليوم أن يخرجوا بمشروع لوقف الإرهاب يبدأ من التعليم المشوه والكارثي في مساجدهم والذي يقدم للصهيونية العالمية خدمة مجانية عجزت أساطيلها وطائراتها عن تحقيقها. لكن الحقيقة هي أن رجال الدين لم يقدموا حتى اليوم سوى الكلام الفارغ والمجتر والذي أصبح يخدش الأسماع بأن الدين الحنيف ضد الإرهاب وضد القتل وضد... وضد...لكنهم مع ذلك يمجدون كل ما فعله خلفاء المسلمين في الألف عام المنصرمة. فهذا الإدعاء في رفض الإرهاب لا يتطابق مع ذلك الرضى والتمجيد بسياسات الخلفاء الأولين. إن على المسلمين أن يحسموا أمرهم فيتخلوا عن هذه الإزدواجية العارية. فإما هم ضد الإرهاب والقتل والتخريب باسم الدين في كل زمان ومكان مما يوجب عليهم إعادة تحليل تأريخ الإسلام في ضوء ذلك وإما هم مع الغزو والقتل والإغتصاب فعليهم يومها أن يسكتوا لأن ما يفعله السلفيون اليوم يتطابق بالكامل مع تلك النظرة. إن السلفيين، في أقل حال، أكثر صدقاً من عمائم المسلمين المنافقة التي تحاول أن تجمع بين الموقفين فتعجز.

فقد سبق وأن بينت أن الفرق في إسلام العرب وإسلام غيرهم من الدخلاء عليه هو ان العرب كانت لهم هوية قبل الإسلام وظلت تلك الهوية قائمة بعد الإسلام. أما غير العرب ممن أخذوا الإسلام فإنه، أي الإسلام، أصبح هوية لهم. فالباكستاني المسلم هو هندي لكنه رفض الهوية الهندية فليس له غير الإسلام هوية وكذا الحال مع الفارسي والتركي والشيشاني كل حسب هويته الأصلية التي أزاحتها الهوية الإسلامية.

فلم يجد العرب مشكلة في الولاء للدولة الأموية والعباسية فقد كانت هويتها عربية أولاً وإسلامية ثانياً ثم رضي بها حتى غير المسلمين من العرب. لكن الأمر تغير تماماً حين إدعى غير العرب حقهم في قيادة الإسلام، وقيادة العرب بالتبعية، فجاءت الدول المسخ من عثمانية وصفوية ومغولية لتشوه الإسلام بشتى الطقوس والقيم الموروثة من ثقافات الشعوب التي أنتجت تلك الدول. فضاعت العروبة وحيت تضيع العروبة يضيع الإسلام.

وقد أدرك أبو الطيب المتنبي ذلك من عهد مبكر في الإسلام فوصف الحال حتى قبل ولادة حكم الأتراك للعرب فقال (رحمه الله):

وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عرب ملوكها عجم

لا أدب عندهم ولا حسب ...  ولا عهود لهم ولا ذمم

وهكذا غاب العرب عن المشهد الإنساني لقرون وكأنهم في سبات، وكان أطول من سبات أهل الكهف. فقد خدروا بقبول ولاية المسلم العثماني أو الفارسي أو المغولي بحجة أن له ولاية الخليفة الإسلامي الذي أختاره الله رغم أن الله لم يختر أي خليفة، ولم يساهم ذلك العربي المخدر في أية قضية تخص وجوده أو دينه.

وحين أتعب التأريخ بني عثمان بعد أن غرقوا في طلب الأرض والمال والجواري فقد كان على العرب أن يخرجوا من تلك الظلمة كما خرجت شعوب أخرى كانت معهم أسيرة القيد العثماني. لكنهم كانوا غير مهيئين في أغلب الأحوال للخروج ومواجهة الدنيا. فقد أمن العثمانيون في أكبر وأطول عملية تجهيل في التأريخ أن يبقى بين العرب أنفار فقط ممن تعلم أو حصل على شيء ينفعه في إدارة شؤونه...وقد خفف من ظلمة ذلك النفق الذي كان العرب فيه بشكل عام عاملان أولهما دخول نابليون إلى مصر وما جلبه معه من فرص علاقات مكنت مصر وأهلها من الإحتكاك بالنهضة الأوربية والثورة الصناعية قبل غيرهم من العرب. وثانيهما الوصاية الفرنسية على جزء من سورية الكبرى، والذي سمي لاحقاً بدولة لبنان. فقد أتاحت هذه الوصاية الباب أمام نصارى لبنان بشكل خاص للتعلم قبل غيرهم، ولم يغب عن أولئك النصارى إنتماؤهم العربي فأقبلوا على اللغة وعلومها والشعر والأدب فبحثوا فيها ونشروا وسبقوا أقرانهم من العرب المسلمين بعقود. وهكذا نجد أن الأدب العربي واللغة عادت للحياة في مصر ولبنان قبل غيرها من أرض العرب، وربما يمكن القول في هذه الحال: "رب ضارة نافعة".

وحين طلع الجيل الجديد بين الحربين العالميتين في القرن العشرين فإنه كان جيلاً متعطشاً للمعرفة والتعليم بعد طول ظمأ عاشه سلفه، فكان الاحتكاك بالغرب الذي خلق نهضة فكرية كبيرة أدت لولادة حركة ثورة في المشرق العربي بشكل خاص (وهو إصطلاح مجازي إذ أنه يضم مصر) فإنحاز الشباب العرب الناشئون والمتطلعون لتغيير جذري إما للمشروع الشيوعي في تقبل الفكر الماركسي وبناء دولة على غرار ما فعله لينين في روسيا أو للمشروع القومي الذي ولد في أفكار بعض العرب الذين تاثروا بمشروع الدولة الوطنية التي قامت أوربا عليها في القرن الماضي. وقد كان طبيعياً أن يكون لغير المسلمين قصب السبق في هذين الإتجاهين!

وحيث إن طبيعة الثورة، أية ثورة، هي أنها طريق النخبة فإن تأثير هؤلاء الشباب من الثوار العرب، شيوعيين كانوا أم قوميين، ظل محصوراً في الدائرة الصغيرة. أما الأغلبية، والتي لا تحب بطبعها التغيير الجذري، فقد وجدت في البقاء على ما تعلمته من مبادئ الإسلام أسلم طريق للديمومة. وهذا جعل من السهل على من مازال يحلم بقيام دولة إسلامية، تجدد عهد الخلافة الغابر وتعيد للعرب مجد العباسيين، أن يجد تعاطفاً كبيراً ولو حتى باللسان بين أغلب الجمهور العربي المسلم. فنشأت حركات إسلامية خجولة أول الأمر لكنها سرعان ما نظمت نفسها فأنتجت أول حركة سياسية منظمة في إخوان مصر ثم تبعها إخوان سورية فإخوان العراق. وكان قد سبق حركات الإخوان نشوء الحركة السلفية الأم في المشروع الصهيوني الوهابي كما سبق وأوضحت. فسارعت الصهيونية إلى دعم حركة الإخوان حين أدركت أنه لا طائل من محاولة فرض السلفية أو الوهابية على المشرق العربي إذ ان الظرف لم يكن قد نضج بعد لقبولها فوجب والحال كذلك دعم البديل الإسلامي المتمثل في حركة الإخوان. وهكذا فإن حركة الإخوان المسلمين في مصر لم يكن لديها مشكلة مع نظام فاروق الفاسد والأجير لإستكبار الصهيونية العالمية لكنها لم تكتف بمعارضة نظام جمال عبد الناصر التقدمي القومي حسب بل حملت السلاح ضده. وهذا لا يمكن أن يفسر إلا لأن الصهيونية لم تكن راضية عن عبد الناصر وان الإخوان كانوا في ركاب الصهيونية في ذلك الوقت واليوم وربما غداً.

وسبب إنحياز الحركات الإسلامية للصهيونية هو أن القاعدة التي نشأت عليها هذه الحركات هي بناء دولة إسلامية ولا يقتضي لهذه الدولة أن تتطلع للحرية أو الإستقلال السياسي أو بناء نظام إقتصادي فيه عدالة إجتماعية. إذ يكفي المشروع السياسي لحركة الإخوان عامة هو قيام دولة إسلامية تطبق فيها فروض الإسلام وقواعد الشريعة الإسلامية. فإذا كان تحقيق هذا يتطلب التعاون مع الصهيونية فليكن الأمر كذلك، فما هو التعارض؟ وسرعان ما اكتشفت الصهيونية العالمية أن هذا هو عين ما تريده فما شأنها إذا فرض المسلمون على سكانهم الصلاة والصوم بالعصى وأخذو الزكاة بالجلد، وما شأنهم إذا قطع المسلمون أيدي اللصوص في بلدانهم وما شأن الصهيوينة العالمية إذا قرر المسلمون رجم الزناة في بلدانهم؟ وهذا الأمر لم يكن كذلك مع المشروع القومي أو الشيوعي في العالم العربي والذي كان له مواقف سياسية مناهضة للمشروع الصهيوني العالمي في الهيمنة.

وظلت الصهيونية العالمية على وفاق تام مع الحركة السياسية الإسلامية لعقود. ففي الوطن العربي شمال جزيرة العرب وجدت في حركة الإخوان المسلمين خير حليف وفي جزيرة العرب وجدت في ربيبتها الوهابية خادماً مطيعاً وسبباً لتخدير ملايين المسلمين خارج أرض العرب.

أما المؤسسة الدينية الرسمية فهي الآن كما كانت منذ قرون أسيرة سلطان الخليفة أو الحاكم. فقد كان مفتي إستانبول ذراع السلطان العثماني يسوق له سياساته ويفتي بتحليل الحرام وتحريم الحلال كما يشتهي الخليفة. وهكذا أصبح الدين ومؤسساته مطية الحاكم وليس المحاسب والرقيب عليها. واستمر الحال هذا في الدول الإسلامية التي ولدت بعد إنهيار الدولة العثمانية أو التي كانت خارجها على حد سواء. فاطمأن حكام العالم العربي الفاسدون والمفسدون في الإعتماد على فتاوى خدمهم من رجال الدين الذين دأبوا على مدح الحاكم والدعاء للعلي القدير أن يحفظه وملكه. إن عدم استقلال المؤسسة الدينية الإسلامية عن الحاكم لعب دوراً اساساً في فساد السياسة الدينية لقرون، تماماً كما سبق وفعلت الكنيسة النصرانية في أوربا قبل عصر التنوير.

ولم يكن حال المؤسسة الدينية الشيعية أفضل من أختها السنية رغم أن الأولى تمثل أقل من عشرين بالمائة من مسلمي العالم. بل ربما كانت المؤسسة الشيعية أكثر عرضة لهيمنة الصهيونية عليها في بعض الأحيان. ذلك لأن رجال الدين الشيعة، شانهم في ذلك شأن رجال الدين السنة، همهم المحافظة على الدين الإسلامي على وفق مذهبهم لقناعتهم أنهم يمثلون صدق الدين. فقد وجد هؤلاء أنهم وسط محيط سني كبير ومعاد بغريزته التي اشبعتها كتب الإسلام لقرون ويكفي أن يقرأ أي شخص فتاوى إبن تيمية ليعرف معنى ما أقول. فاعتقدوا أن عليهم  من أجل المحافظة على الطائفة الصغيرة أن يتفقوا مع أي من يمكن أن يدافع عنهم. فكان ولاء المرجعية الدينية الشيعية بشكل عام للغرب الصهيوني. وهذه كانت الحقيقة طيلة القرن الماضي بشكل عام ولم يغير منها ظهور حركة ولاية الفقيه التي وقفت وقفاً معارضاً لذلك التوجه فهي، أي ولاية الفقيه، ما زالت حتى اليوم وبعد ثلاثين عاماً على نجاحها في تأسيس الجمهورية الإسلامية ليست مقبولة داخل المرجعية الدينية الشيعية ونسمع بين الحين والآخر تعليقاً سلبياً من طرف على الآخر.

وقد إتضح المفهوم السياسي الإسلامي بشكل عام من موقف كل من طهران وحزب الله من حركة حماس. فقد كانت حركة حماس تتخذ من دمشق مقراً آمناً لها بحماية بعث سورية ودعمه. وتم تسمية الطيف الذي ضم إيران وسورية وحزب الله وحماس وحركة الجهاد محور المقاومة أو الممانعة... وهكذا كان حتى تفجر الوضع في سورية. وحيث إن هذا المقال ليس بصدد تحليل ما حدث في سورية فسوف أكتفي بإستخلاص حقيقة واخدة منه ألا وهي أن حركة حماس وجدت نفسها تقف، بحكم إنتمائها لحركة الإخوان المسلمين العالمية، مع التمرد المسلح ضد نظام البعث. فوقف أمينها العام البائس على منصة المعارضة السورية ورفع علم الإنتداب الفرنسي. ثم نقلت الحركة قيادتها إلى قطر قاعدة الصهيونية العالمية الكبري في الخليج وجزيرة العرب حيث يسرح ويمرح ضباط المخابرات الصهيونية. ولا أقول ما قاله العديد من المعلقين أن حماس أنكرت الجميل فلست معنياً بذلك لكني معني بأن حماس وجدت أن الإنتماء لحركة الإخوان والتي تطمع في بناء دولة إسلامية له أسبقية على الموقف الوجودي في الصراع ضد الصهيونية، فكشفت حقيقة أنها لا تحارب الصهيونية لأن الأخيرة تشكل خطراً على الوجود العربي لكنها كانت تحاربها فقط لأنها منعتها من إقامة دولة إسلامية. فلو أن الصهيونية تدعم قيام دولة إسلامية في فلسطين لسارعت حماس للدخول في صفقة معها.

وقد وجدت طهران نفسها في موقف عصيب، وعانى حزب الله من الحرج نفسه وإن كان بدرجة أقل. ذلك لأن كليهما كان وما زال يؤمن بصدقية معركة حماس ضد الصهيوينة وقد يجد لها الأعذار في وقوفها مع حركة الإخوان المسلمين بسبب أن نظام البعث اضطهد الحركة الدينية بشكل عام. وقد برز هذا الموقف بشكل واضح في دعم طهران لحكم الإخوان المسلمين في مصر كذلك. وهكذا فقد وجدت الحركة الشيعية السياسية الفاعلة في طهران ولبنان نفسها أمام خيار صعب. فهي من جانب لا يمكن أن تفرط بنظام البعث الذي تؤمن أنه معها في المعركة المناهضة للهيمنة الصهيونية ومن جانب آخر لا يمكن لها أن تدير ظهرها لحركة إسلامية دينية تقاتل الصهيونية لإن هناك قناعة مبدئية لديها أن كل حركة إسلامية سياسية مناهضة للصهيونية يجب أن تدعم بحكم الأخوة الدينية حتى إذا شطت تلك الحركة وخرجت عن الخط كما حدث لحماس. ففترت العلاقة بين حزب الله وحماس بشكل كبير وبشكل أقل فتوراً بين حماس وطهران لأسباب ليس هذا مجال الخوض فيها وتتعلق بطبيعة القيادة السياسية في طهران والتي ليست بانسجام القيادة السياسية داخل حزب الله. بل إن هناك روايات تتحدث عن إكتشاف حزب الله أثناء قتاله في سورية بأن بعض الأسلحة التي بيد المعارضة السورية المسلحة كانت من السلاح الذي مدت به حماس.

فخيار إيران أقل صعوبة لأنها تؤمن بدولة إسلامية عالمية تقودها هي بنظرية ولاية الفقيه وهي بهذا ليس لديها مانع من التعاون مع أية حركة إسلامية تشاركها هذا الحلم حتى إذا كانت تلك الحركة لا تؤمن بولاية الفقيه كما هو حال حماس. أما خيار حزب الله فكان وما زال أصعب. ذلك لأن حزب الله حزب عروبي وجد في ولاية الفقيه الطريق الوحيد للفكر الشيعي في أن يواجه الصهيونية، فهو يجد أن موقفه ينسجم مع طهران لأن الأخيرة تهتدي بولاية الفقيه، كما ان موقفه بنسجم مع سورية لأن الأخيرة تقاتل دفاعاً عن الوجود القومي العربي الذي يشكل حزب الله جزءً منه والذي تهدده الصهيونية ليس بسبب إسلامه ولكن بسبب وجوده!

إلا أن الحرب الأهلية في سورية كشفت حقيقة أخطر في الإسلام السياسي وما ينتظر المسلمين. فقد وضحت الطبيعة المذهبية للإسلام السياسي فتبين أنه لا يوجد إسلام واحد يمكن أن تقوم على أساسه دولة إسلامية. فإيران الشيعية أصبحت تشكل قاعدة الهلال الشيعي الذي يهدد وجود المسلمين السنة وسلاح حزب الله يهدد سنة لبنان وليس الدولة الصهيونية ... وتجاوز هذا التقسيم بين دولة سنية وشيعية إلى أن الدولة السنية نفسها موضع تنازع فهي عند الإخوان غيرها عند السلفية وكل طرف يدعي أنه وحده مصيب وغيره مخطئ أو كافر، مما يعني قتاله.... إن هذا التموضع الجديد للإسلام السياسي خلق حالة من التشرذم في العالم العربي والإسلامي لم تتمكن كل حروب الصهيونية من تحقيقها. فقد حول الإسلام السياسي الوطن العربي إلى طوائف وقبائل تتقاتل حتى دون أن تعرف لماذا!

فهل يمكن إيقاف هذا؟ ما هو الطريق وهل ينفع؟ هذا ما ساحاول أن أختم بهذه هذه السلسلة إن شاء الله.

وللحديث صلة...

عبد الحق العاني

7 تموز  2014

10 رمضان 1435

www.haqalani.com

 

==============

وبإنتظار الحلقة الأخيرة السابعة عشر