النووي الإيراني .. لإنتاج الطاقة أم لإمتلاك السلاح؟

عماد خدوري *

نـٌُشرت هذه المقالة على موقع الجزيرة.نت في 28/11/2007.

للإطلاع على التعليقات عليها، أنظر آخر المقالة في الرابط أدناه:

http://www.aljazeera.net/NR/exeres/D375B01E-24F6-4919-AD02-94002EBADDD5.htm

مع تصاعد الهجمة الإعلامية والدبلوماسية الأميركية خلال السنوات المنصرمة على البرنامج النووي الإيراني، تتنامى التساؤلات المشروعة من قبل الدول المجاورة لإيران، والمعنيين السياسيين والعسكريين في الكثير من الدول، عن طبيعة هذا البرنامج وما يهدف إلى تحقيقه.

واستنادا إلى سراب تجربة العراق في الحصول على السلاح النووي في ثمانينيات القرن الماضي، والتي ساهمت فيها وفق طبيعة عملي في المجال النووي العراقي لمدة ثلاثين عاماً، يتبادر إلى الذهن تساؤلان نادراً ما يتم التطرق إليهما في خضم التعليقات والتهويل الإعلامي.

سؤالان مشروعان

1-   هل من مصلحة إيران إن كانت نواياها الحصول على السلاح النووي، أن تسعى في جلب الأنظار إليها على خطوات توسع برنامجها في تقنية الطرد المركزي لتغذية اليورانيوم, بينما حاولت وفشلت في أن تتكتم على مشاريع مهمة أخرى، كالحصول مثلاً على تقنية استخلاص الماء الثقيل لاستخدامه في تشغيل مفاعل من تصميمها وإنشائها، يستخدم اليورانيوم الطبيعي القادر على إنتاج البلوتونيوم بدءًا من تسعينيات القرن الماضي؟

أو تسليمها مؤخراً تقريراً إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد سنتين من المماطلة، عن طريقة تصنيع لب القنبلة النووية تدّعي إيران أن العالم النووي الباكستاني عبد القادر خان كان قد أرسله إليها بدون طلبها، مع تصاميم أجهزة الطرد المركزي لتغذية اليورانيوم؟

هل حسمت إيران هذا التناقض في نياتها مما يعضد جهرها الحالي بحاجتها إلى إنتاج القدرة الكهرونووية أم أنها بدعة تفاوضية لاكتساب الوقت لتحقيق غايتها السرية؟

 2-  ما هو الخيار الأفضل، الضربة العسكرية الأميركية الإسرائيلية المُسبقة للقوة العسكرية الدفاعية والهجومية الإيرانية وقصف البنى التحتية للبرنامج النووي الإيراني، أم التمسك بالأمل في أن تحذو إيران في حالة حصولها على السلاح النووي حذو الموقف السياسي الناضج لدول أخرى تمكنت من الحصول على هذا السلاح فاكتفت بتحقيق طموحها في تعزيز هيبتها وسمعتها الدولية والتلويح بالسلاح النووي رادعا عسكريا يخدم مصالحها وإستراتيجياتها الإقليمية؟

سأحاول الإسهاب في مضامين السؤالين المذكورين والاستدلال على ما سيتمخض عن البرنامج النووي الإيراني في المستقبل القريب استنادا إلى معرفتي المتواضعة بمفاصل إنتاج ومتطلبات استخدام السلاح النووي.

البرنامج النووي الإيراني
من المفيد إلقاء نظرة تاريخية سريعة على البرنامج النووي الإيراني. فقد كانت الولايات المتحدة الأميركية في أوائل سبعينيات القرن المنصرم هي السبّاقة بالتلويح بجَزرة الطاقة الكهرونووية للشاه، حيث عرضت عليه قيامها ببناء ما بين خمسة وسبعة مفاعلات كهرونووية في إيران. 

لكن إيران في ذلك الوقت فوجئت بالكلفة العالية للمفاعلات الأميركية وفضلت عرض الشركة الألمانية "كرافتورك يونيون سيمنس" وكلّفتها بالبدء في بناء مفاعلين كهرونوويين في بوشهر، حيث بوشر العمل فيهما عام 1974.

وكان المفاعل الأول قد اكتمل بنسبة 85% من بنائه عند اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 وكان من المخطط له أن يبدأ إنتاج القدرة الكهرونووية عام 1981.

وقبل ذلك كانت الولايات المتحدة قد وهبت لإيران مفاعلا للأبحاث تم الانتهاء من تشييده وتشغيله في جامعة طهران عام 1967.

والجدير بالذكر أن هذا المفاعل كان في الأساس هدية إلى العراق وكان على وشك وصول أول شحنة من معداته إلى ميناء البصرة في صيف 1958 عندما اندلعت ثورة يوليو/تموز العراقية.

وعلى ضوء ذلك قررت الولايات المتحدة تحويل وجهة السفينة إلى الموانئ الإيرانية. وفي نفس عام 1967 تم تشغيل مفاعل أبحاث سوفياتي في "التويثة" قرب بغداد.

تباطأ العمل في مفاعلي بوشهر بعد استتباب الثورة الإيرانية إلى أن تصاعدت حدة القتال أثناء الحرب العراقية الإيرانية فقام العراق بقصف المفاعلين عام 1987.

حاولت إيران إعادة الحياة إلى برنامجها النووي السلمي وتمكنت من التعاقد مع الاتحاد السوفياتي عام1995 على تحوير المفاعلين الألمانيين المدمرين إلى النوع المعتمد في الاتحاد السوفياتي، وهما الآن على وشك التشغيل. ولكن هل كان هذا هو جُلّ اهتمام إيران النووي؟ الوقائع تثبت عكس ذلك.

يجب التأكيد هنا أن الحصول على سلاح نووي خيار وطني يحتاج في الأساس إلى قرار سياسي. فعلى سبيل المثال أعلن الرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو عام 1965 -بعد تفجير الصين قنبلتها النووية عام 1964 واقتناعه بأن الهند تسعى حثيثاً للحصول على السلاح النووي- أن على باكستان الحصول على قنبلتها "حتى لو أكلنا الحشيش أو الأوراق".

كما اتخذت القيادة العراقية قرارها بالشروع في برنامج نووي عسكري بعد أشهر قليلة من تدمير إسرائيل للمفاعلين الفرنسيين في "التويثة" قرب بغداد عام 1981.

متى اتخذت إيران قرارها؟
سيبقى هذا السر قيد الكتمان إلى أن تفصح عنه إيران رسمياً بعد حصولها على القنبلة أو يتجرأ عالم نووي إيراني أو مسؤول سياسي -وهو احتمال ضئيل- على البوح به قبل ذلك.

إلا أن ما قامت به إيران في التسعينيات، كما سنأتي إلى تفصيله، يرجّح احتمال أن قرارها السياسي كان قد اتُّخِذ إما بعد تدمير العراق لمفاعلي بوشهر عام 1987 أو بعد حرب الخليج الأولى والتدمير الشامل للمنشآت النووية العراقية من قبل القصف الأميركي لها أو نسفها من قبل لجان تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1991.

وأنها قد اتعظت وربما انبهرت بدروس التجربة العراقية النووية العسكرية ذات التغذية العالية, إذ قررت إيران المباشرة في سلوك الخيارين النوويين العسكريين في ذات الوقت، أي الحصول على البلوتونيوم وعلى اليورانيوم العسكري.

كانت القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة على مدينة هيروشيما اليابانية في السادس من أغسطس/آب 1945 من نوع اليورانيوم العسكري في حين كانت القنبلة التي أُلقيت على مدينة ناغازاكي في التاسع من الشهر نفسه من نوع البلوتونيوم.

باشرت إيران منذ عام 1996 بناء منشأة لإنتاج الماء الثقيل في آراك بوسط إيران، وقد بدأ إنتاجه هناك عام 2006 بعد أن كشفت المعارضة الإيرانية النقاب عنه عام 2002.

كما بدأت إيران عام 2004 إنشاء مفاعل من تصميمها، بقدرة 40 ميغاواتًا بالقرب من منشأة إنتاج الماء الثقيل يعتمد في تشغيله على الماء الثقيل واليورانيوم الطبيعي (غير المغّذى) المتوفر في إيران.

لماذا اختارت إيران هذا المفاعل؟
هذا النوع من المفاعلات وبهذه القدرة يصلح لإنتاج البلوتونيوم بالكميات المطلوبة للسلاح النووي وهو من نفس نوع وقدرة كل من المفاعل الفرنسي في ديمونا الذي يزود إسرائيل بقنابلها النووية والمفاعل الكندي الذي مكّن الهند من الحصول على سلاحها النووي والمفاعل الباكستاني في "خوشاب".

إن حجّة إيران التقنية لخيارها لهذا النوع من المفاعلات، الذي من المفروض تشغيله عام 2009، هي أنه سيستخدم للأبحاث العلمية ولإنتاج النظائر المُشعّة للأغراض الطبية والزراعية ولأنه يعمل باليورانيوم الطبيعي المتوفر في إيران.

إن قدرة هذا المفاعل (40 ميغاواتا) كبيرة نسبياً إن كان الغرض منه هو ما تدعيه إيران (إذ إن قدرة 10 ميغاواتات قد تكون كافية لهذه الأغراض)، في حين أنها عملت ونجحت في تجاوز مشكلة توفّر الوقود النووي بسيطرتها على عملية تغذية اليورانيوم.

وتبقى إمكانية إنتاج البلوتونيوم الحافز الوارد لهذا المفاعل. في هذه الحالة ليس هناك سوى رادع مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية المستمرة والدقيقة على وقوده المحترق، وهو الأمر المُعرّض بين الفترة والأخرى إلى التشنج والتعطيل.

وفي حالة وقوعه ستتمكن إيران من استخلاص البلوتونيوم من وقوده المحترق باستخدام الخلايا الحارة فيه. إلا أنه سيبقى عرضة للتدمير بقصف جوي لا يمكن صدّه، وهو أمر يشمل باقي المنشآت النووية الكبيرة حجماً والواضحة الاستخدام، مثل منشأة تغذية اليورانيوم باستخدام طريقة الطرد المركزي وطريقة الفصل الليزري في موقع نتانز.

من هنا فقد استفادت إيران بذكاء من تجربة العراق القاسية، وذلك بالتصويب نحو تقنية الطرد المركزي التي لها عدة مميزات عن باقي طرق التغذية، وأهمها بالنسبة إلى إيران سهولة إخفاء منشآتها في أبنية أو منشآت يصعب الكشف عنها من الجو.

من الأرجح أنه لم يخف على إيران فشل القصف الجوي الأميركي الإشباعي في شتاء عام 1991 خلال حرب الخليج الأولى -الذي كان دماره شبه كامل للبنى التحتية العراقية- في تدمير أهم منشآت برنامج التسليح النووي العراقي وهو موقع "الأثير" لتصميم وتصنيع السلاح النووي الذي طالته قنبلة حرارية واحدة سقطت على محطة للكهرباء خارج أسواره.

تدمير المنشآت النووية بالصدفة
كما كان تدمير القصف الجوي لمنشأتي التغذية النووية العراقية في "الصفاء" " و"الفجر" وفي آخر أسبوع من القصف الجوي الذي دام حوالي ثلاثة أشهر، من قبيل الصدفة.

ففي حين استنفدوا قصف كل الأهداف الكثيرة المُحددة مسبقاً، وجّهوا ضربة على مجمع "الصفاء"، والتي تبعد حوالي 30 كيلومتراً شمال بغداد في الطارمية على ضفاف دجلة، لا لسبب سوى أنهم لم يجدوا غيره يستحق العناء في تلك المنطقة.

لكنهم لاحظوا في اليوم التالي من خلال التصوير الجوي، الجهد الكثيف الذي بذله العراقيون لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المجمع. ثم فوجئوا عندما قارنوا الصور الجوية لمجمع "الصفاء" مع المواقع التي لم يطلها القصف بعد، بالتشابه التام بينه وبين مجمع "الفجر" في الشرقاط شمال بيجي الذي لم يكن العمل قد اكتمل عليه، وحيث كان قد إلتجأ العلماء النوويون والمدراء الرئيسيون مع عوائلهم الى المجمع السكني العائد له، فوجهوا ضربة الى ذلك المجمع يأيام معدودة قبل وقف إطلاق النار. ولم تدرك أجهزة المخابرات الأمريكية والإنكليزية والإسرائيلية طبيعة عمل هاتين المنشأتين، والتي جرى العمل عليها لعدة سنوات خلت، الإ بعد وصول المفتشين الدوليين على الأرض بعد عدة شهور.

إن تشابه طبيعة السيطرة الأمنية والاستخبارية شبه التامة بين ما كانت عليه بالعراق في ثمانينيات القرن الماضي، حيث أدّت إلى فشل أجهزة المخابرات المُعادية في تحديد مواقع المنشآت النووية العسكرية العراقية كما ورد أعلاه، وحالها في إيران الآن يشير إلى أهم ضعف لدى أجهزة المخابرات المُعادية وأقوى سبب لثقة إيران بقدرتها على الاستمرار في برنامجها النووي العسكري، ألا وهو فقدان عنصر الجواسيس في الكادر النووي الإيراني.

فالإجابة على عنوان المقال هي أن إيران تسعى إلى الحصول على كليهما. والإجابة عن التساؤل الأول هي أن شراسة وذكاء إيران التفاوضي مهّدا لها السبيل لبدعة التفاوض الحالية.

والإجابة على التساؤل الثاني هي أن لإيران الحق السيادي في امتلاك ناصية الطاقة الكهرونووية وبكل حلقاتها ومن ضمنها تغذية اليورانيوم مع التزامها التام الظاهري بمعاهدات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. إلا أن ما خفي كان أعظم.

إن ما يمكن قوله في ختام هذا المضمار هو أن الولايات المتحدة مؤهلة لمضاعفة حماقتها السياسية بعد ضرب العراق إذا ارتكبت في إيران ما ارتكبته في العراق.


ـــــــــــــ
* عالم نووي عراقي