ما المطلوب من
المقاومة العراقية
صلاح عمر العلي
تبرز في الاونة
الاخيرة العديد من المؤشرات التي تؤكد جدية قرار الأنسحاب الامريكي من العراق خلال
الفترة التي اعلنها الرئيس الامريكي أوباما، ارتباطا بمصالح الولايات المتحدة
الامريكية وخدمة لها، فليس من بين تلك المؤشرات ما له علاقة حقيقية بمصلحة ومستقبل
الشعب العراقي. فأمريكا التي اعلنت الحرب
على العراق في 20 – 3 – 2003 مع حلفاءها من الدول الأجنبية والعربية كانت تحتل
موقع الصدارة بين دول العالم،على المستويات، الاقتصادية والعلمية والعسكرية
والصناعية، وتبوأت موقع القيادة والريادة للعالم كله خصوصا بعد إنهيار وسقوط
الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية.
وخلال الاعوام الست الماضية من عمر الاحتلال الامريكي للعراق وما قامت به
أدارة الرئيس الامريكي السابق من أفعال وممارسات شنيعة ضد الدولة العراقية وشعبنا
العراقي التي لم تشهدها دولة أخرى من دول العالم، في عصرنا الراهن ولا في الماضي،
هيأت لولادة وإنبثاق المقاومة العراقية البطلة كحتمية تاريخية لابد منها، وتمكنت
من اجبار القوات المحتلة على أن يكون ثمن إحتلالها للعراق باهضا على كافة
المستويات العسكرية والبشرية والمالية والاخلاقية، وفي المعنويات. ولم يمض طويل وقت حتى بدأت الاصوات
تتعالى من داخل الساحة الامريكية ومن ساحات اوربية وعربية تعلن احتجاجاتها ضد هذا
العدوان والاحتلال الوحشي الذي دمر اسس وكيان دولة عريقة كما دمر بناها التحتية
التي جاءت كنتاج لجهود وتضحيات الاجيال العراقية المتعاقبة عبر عقود طويلة من
الزمن. ولم تقف الامور داخل اسوار الاحتجاجات فقط بل وجدنا حالة الارتباك والتخبط
تظهر سريعا داخل اسوار إدارة الشر والعدوان الامريكية، الذي أثمر عن مسلسل
الاستقالات الطوعية والاجبارية لعدد من كبار رموز الاحتلال، رافقتها حملات متتابعه
من الاتهامات والشكوك المتبادلة بين بعض كبار رموز الادارة الامريكية، فكانت حصيلة
هذه الحالة الاطاحة بعدد من تلك الرموز الشريرة وأهمها على الاطلاق هما وولفويتز
وكيل وزارة الدفاع ومن ثم وزير دفاعه رامسفيلد اللذين يعتبران أخطر وأهم المخططين
والمهندسين والمنفذين لاحتلال العراق. أما على الجانب الميداني العراقي وفي ساحات
المواجهة المباشرة بين القوات المحتلة من جهة وقوات المقاومة العراقية الباسلة فقد
تصاعدت وتيرة الخسائر الأمريكية الباهضة، في الارواح والمعدات العسكرية المختلفة،
بفعل الضربات الموجعة التي تتلقاها قوات الاحتلال على ايدي مقاتلي المقاومة
الابطال وكفاحهم الملحمي، الامر الذي ادى بشكل واضح الى هبوط معنويات جيش الاحتلال
رغم ما تتوفر لديه من المعدات العسكرية ذات التقنية العالية.
وتراكم الخوف والرعب في نفوسهم من قوات المقاومة
البطلة، لتتحول بعد ذلك ظاهرة الخوف هذه الى عصاب ومرض نفسي خطير ادى في كثير من
الحالات الى الانتحار أو قتل بعضهم البعض الآخر، وهو في تقديري عامل مهم في مقاييس
النصر أو الخسارة في ساحة المواجهة. وتواصل الخط البياني للخسائر الامريكية
بالصعود بوتائر عالية رغم عمليات التعتيم والمنع الذي فرضته الادارة الأمريكية على
معظم وسائل الاعلام العالمية. ومع حلول عام
2007 بدأت تتسرب بعض التقارير الهامة التي تتحدث عن الخسائر الأمريكية
الفلكية في الأرواح والأموال والمعدات العسكرية، وتشير الى تاثر الميزانيات
الامريكية السنوية بسبب تلك الخسائر، وحذرت من مغبة تعرض الاقتصاد الامريكي الى
كارثة كبرى، الامر الذي فرض على الخارطة السياسية جوا من الارتباك الذي عكس نتائجه
على المزيد من الاستقالات والإقالات الاجبارية شملت اعداد مهمة من اركان ادارة
بوش، رافق ذلك توالي الاعترافات بفشل مشروع الاحتلال وتكاليفه الباهضة على
الولايات المتحدة الامريكية بشكل عام ومخاطر استمرار التواجد العسكري في العراق،
فغدا موضوع الانسحاب العسكري الامريكي من
العراق المطلب الرئيسي في الحملة الانتخابية الاخيرة الذي تمحورت حوله معظم فعاليات
وأنشطة تلك الحملة، والتي جاءت نتائجها لصالح قرار الانسحاب قبل ان يكون لصالح
الرئيس اوباما المتبني لهذا الشعار. واذا كان هناك اكثر من دلالة لنتائج هذه
الانتخابات فان نجاح المطالبة الشعبية الواسعة في داخل الولايات المتحدة بالانسحاب
من العراق تاتي في مقدمة تلك الدلالات. ومن خلال النتيجة التي اسفرت عنها هذه
الانتخابات يمكننا استقراء موضوع ذو دلالة قوية وتاثير بالغ الاهمية على تطور
الاوضاع العامة في العراق خلال الاشهر القادمة، فقد بات الضغط الشعبي الامريكي على
إدارة أوباما للخروج من المستنقع العراقي مطلبا ملحا، كلما تعمقت وازدادت الازمة
المالية التي تبدو وكانها مستعصية الحل، مما أجبرها على إعلان جدولة الانسحاب
نتيجة لتلك الخسائر وما ولدته من تذمر كبير وإستياء بين عوائل الجنود الامريكان
وما شكلته من نزيف مستمر للاقتصاد الامريكي.
ولكل ما تقدم نرى أن الادارة الامريكية الجديدة تجد نفسها مرغمة على الانسحاب لتفادي النزيف المتواصل
في الأرواح البشرية وفي المعدات العسكرية المختلفة، ولإنقاذ نفسها من الغرق حتى
القاع في هذا المستنقع الذي تورطت فيه ادارتها السابقة بقيادة جورج دبليو بوش. ان
الانسحاب من العراق لم يات بالضرورة تعبيرا عن رغبة الادارة الامريكية الجديدة،
بقدر ما ياتي تعبيرا عن مطلب شعبي امريكي واسع شهدنا صور التعبير عنه في مسيرات
ومظاهرات مليونية خلال الاعوام الست الماضية خرجت في مختلف المدن والولايات
الامريكية، كما عبرت عنه نتائج الانتخابات التي الحقت هزيمة مخزية بادارة بوش
ورمتها في مزابل التاريخ. كذلك ياتي هذا الانسحاب لتفادي المزيد من الخسائر والهدر
في الارواح والمعدات العسكرية والاموال التي بدأت تشكل أزمة استثنائية في
تاريخ هذه الدولة التي لم تتعرض لمثلها منذ عشرات السنين. والاهم من كل ذلك
لمحاولة استعادة هيبتها المفقودة بصفتها الدولة الاعظم سابقا جراء حربها المجنونة
على العراق.
ومن هنا نرى ان
المرحلة القادمة التي ستشهد بداية الانسحاب الامريكي ستكون مرحلة خطيرة وحاسمة،
ليس على مستوى الكفاح والمواجهة مع قوات الاحتلال حسب، بل على مختلف المستويات
والاصعدة الاخرى التي يجب ان تضع قوى المقاومة العرقية المسلحة ومن خلفها ملايين
العراقيين من منتسبي القوى الوطنية الرافضة للأحتلال على درجة كافية من الجاهزية
والإستعداد لكل الاحتمالات والتوقعات، وتمكنها من النهوض بكل مستلزمات هذه المرحلة
ومتطلباتها.وبضوء ذلك فان سؤالا يطرح نفسه بالحاح على الجميع: ما هو المطلوب من
المقاومة والقوى الوطنية المناهضة للاحتلال؟ وجوابا على هذا السؤال الذي نطمح أن
يشكل بداية حوار مفتوح تشارك به كل الإقلام العراقية المخلصة والمؤمنة بحتمية
الانتصار العراقي على جيش الاحتلال لبلادنا أدون هذه الملاحظات التي ارى بان
إنجازها في القريب له اهمية كبيرة من بين ملاحظات عديدة:
1 - يستوجب على كل القوى المناهضة للاحتلال وعلى
المقاومة العراقية في المقام الاول ان
تكون اكثر وعيا وادراكا وتحسبا لمتطلبات هذه المرحلة والمرحلة اللاحقة، واخذ
الحيطة والحذر من كل الاحتمالات المتوقعة سلبا أو ايجابا، وأن تدرك بوضوح بانه لم
يعد يكفي ترديد القول بأن المشاركين في العملية السياسية سيهربون من العراق مع بدء
الانسحاب الامريكي. فليس في ذلك - اذا ما حصل - ما يكفي لحل مشاكل العراق المتخمة
بالتعقيدات والاشكالات العديدة بل عليهم عدم التعويل على هذه المقولة غير المؤكدة،
والمبادرة منذ الأن لصياغة مسودة دستور جديد للبلاد يتناول كل الاشكالات القائمة
ويضع الحلول الواضحة لها بما يجعل المواطن العراقي أيا كانت هويته مطمئنا بأن
مستقبله مضمون ومكفول دستوريا وقانونيا في ظل قيادة وطنية منتخبة، وأن المآسي
والمحن التي عاشها خلال سنيَ الاحتلال من قتل وتهجير وسفك للدماء البريئة في كل
أنحاء العراق دون تمييز ونهب لثرواتهم ومدخراتهم وكنوزهم التاريخية سوف لن تعود من
جديد. إن ألإقرار بوجود المشاكل مهما كان
حجمها، ومناقشتها وبذل الجهد لوضع العلاج الحقيقي لها يجب ان لا يخيف احدا، بل ما
يجب أن يخيفنا هو السكوت أو التغاضي عنها، وإيهامنا بعدم وجود تلك المشاكل مرددين
المقولة التقليدية (كلتنا عراقيين وماكو فرق بيناتنا لا شيعة ولا سنة ولا عرب ولا
اكراد ولا مسلمين ولا مسيحيين). ان مهمة
الانتهاء من صياغة الدستور الجديد تاتي في المقام الاول من سلم المهام الملقاة على
عاتق القوى الوطنية، مع الاقرار بأن هذا الإنجاز لا يكفي لضمان الاستقرار المنشود
للعراق في ظل اوضاع اقليمية ودولية مضطربة وفي ظل اطماع وتدخلات مستمرة في الشؤون
الداخلية العراقية.
2 – عليها أن
تؤمن إيمانا عميقا بأن حالة التوازن والتماسك في المعادلة الوطنية العراقية ستكون
محفوفة بمخاطر الفشل ولا يكتب لها النجاح من دون مشاركة القوى الوطنية الكردية في
عملية صياغة الدستور الجديد مشاركة حقيقية وفعالة في تقرير مصير العراق. ولضمان
التعان والتفاهم مع القوى الوطنية الكردية لابد من توفير جو من الثقة المتبادلة
بين الجميع لان هذه القوى لا يمكن أن تتعامل الا مع القوى التي تثق بها وثقتها -
حسب معلوماتنا- ببعض القوى واطراف
المقاومة ليست بالمستوى الذي يؤهل لمثل هذا التعاون مما يستوجب بذل الجهد المتواصل
والعمل الجاد من أجل بناء الثقة. فالعمل في مرحلة ما بعد الانسحاب الامريكي يتطلب
التخلي عن النهج القديم وضرورة النظر الى مشاكل المنطقة والعالم بنظرة جديدة دون
التخلي عن المبادىء الاساسية. إنني اعتقد ان المرحلة القادمة تقضي بضرورة التعامل
بمرونة وحنكة سياسية ودبلوماسية عالية وعقل مفتوح وبمستوى عال من الشفافية والوضوح،
لاننا نواجه قوة عاتية ولا نصير أو داعم لنا الا الله، وابناء شعبنا المخلصين لهذا الوطن العزيز.
3 –
الاسراع في تشكيل جهاز سياسي – ديبلوماسي كفوء يضم باحثين ذوي خبرات عالية في هذا المجال
يتولى مهمة تسويق ونشر البرنامج السياسي والاستراتيجي المعلن منذ قرابة اربعة
اعوام بعد إجراء مراجعة فاعلة عليه، وطنيا وإقليميا ودوليا، مستخدما كل ما يتوفر
من وسائل النشر والاعلام، مستفيدين من تجارب الاخرين كفيتنام والجزائر وغيرهما،
لتهيئة شروط التفاوض ما بعد الانسحاب.
4 – تضمين البرنامج السياسي
للمقاومة العراقية بندا واضحا يعرب عن إيمان العراق السيد المستقل إيمانا عميقا
بأهمية بناء علاقات إيجابية راسخة تقوم على اساس احترام المصالح المتبادلة مع دول
الجوار وتحريم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، سياسيا أو ثقافية أو دينيا
أو إمنيا أو اي صيغة من الصيغ التي من
شانها تعكير صفو العلاقات الودية القائمة بين تلك الدول واحترام سيادتها على
اراضيها.
5– تكليف عدد كاف من السياسيين العراقيين لوضع إستراتيجة
ما بعد التحرير تعتمد ثوابت جوهرية تتعلق بهوية العراق العربية الاسلامية - ووحدته الوطنية وأن الفرص يجب أن تكون مفتوحة للجميع
دون تمييز أو تفريق، وأن النظام المعتمد مستقبلا نظام إنتخابي برلماني ديمقراطي وأن
الدولة العراقية هي دولة مواطنين، متساوين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن خلفياتهم
القومية والدينية أو السياسية وعقد ندوات نوعية غرضها مناقشة بنود تلك الاستراتيجية
بما يضمن سد الثغرات ومعالجة النواقص، ومن ثم طرحها على المواطنين العراقيين في المقام
الاول وكذلك على المستويين الاقليمي والدولي على ان يتولى تلك المهمة جهاز سياسي يتشكل
من عناصر كفوءة. مع الاخذ بالإعتبار أن هناك حظر اقليمي ودولي على المقاومة بسبب نهجها
الاستراتيجي الذي يؤكد على الهوية العربية الاسلامية للعراق ووحدته.
6 – البدء بحوارات داخلية نشطة
وسريعة تشمل جميع فصائل وقوى المقاومة العراقية دون إستثناء بهدف التوصل الى
إتفاقات وتوافقات واضحة تشكل معالم مشروع وطني شعبي عام يعتمد من قبل تلك القوى
ويكون بمثابة مظلة وطنية عامة يستظل بها الجميع مع إمكانية إحتفاظ كل فصيل مقاوم
بمشروعه الوطني الخاص به والاتفاق ما أمكن على تشكيل قيادة مشتركة تنهض بمهمة
ادارة الصراع في المرحلتين الراهنة واللاحقة، على المستويين السياسي والعسكري .
وأخيرا لابد من التاكيد من جديد أن
المقاومة العراقية انجزت ما لم تستطع اية مقاومة في التاريخ انجازه فإستحقت
بذلك أن تكون معجزة العصر، لكن ذلك لا يجب ان يمنعها من التعلم والاستفادة من
تجارب الاخرين، وأهم ما يجب تعلمه من وجهة نظري هو التواضع وتحصين الذات من
الإصابة بمرض الغرور.