ترانزيت في سماء “البلد البعيد الذي تحب”..

د. أحمد خيري العمري

8 أيار 2009

على قلق كأن الريح تحتي”، أريد أن أركب الريح، أو أسابقها لكي أصل حيث ترقد والدتي في المشفى في الامارات.. الرحلة تستغرق من واشنطون الى دبي تستغرق أكثر من ثلاث عشرة ساعة، و أي “ترانزيت” سيعطلني أكثر مما أحتمل..لذا كان طلبي الوحيد من وكيل السفريات ان تكون الرحلة مباشرة : بلا ترانزيت !

لكنه لم يكن يدري، كما لم أكن أدري أنا أيضا أن الرحلة كلها ستكون “ترانزيتابطريقة ما.. ولم أكن أدري وأنا أستقر في مقعدي أن الشاشة المثبتة أمامي ستنقلني إلى ترانزيت لم يكن في بالي ولا حساباتي..

من بين الخيارات في تلك الشاشة كان ذلك الخيار الذي يوضح لك موقع الطائرة من خط سير الرحلة على خريطة تشكل في حالتي العالم بأسره، تجاهلت الأمر في البداية، إذ ما إن تقلع الطائرة حتى تحلق فوق المحيط الأطلسي الذي أسماه أجدادنا بحر الظلمات، و لا أحد يريد أن يتذكر ذلك طول الوقت، خاصة عندما يكون لديه ما يكفيه من الهواجس مختلفة النوع..

قضيت أكثر من نصف الوقت مع كتابي وأوراقي، ولم يخطر في بالي أن أعرف موقع الطائرة لكني لمحت من شاشة مجاورة أننا فوق شمال أوربا.. بعد قليل وجدت أننا فوق أنقرة، وبدأ خط الرحلة (الذي لم أكن قد فكرت فيه قبلها) يتشكل في ذهني.. وبدا لي أن الطائرة تتجه لتحلق فوق العراق.. ذلك البلد البعيد الذي أحب.. ذلك البلد الذي كلما ابتعدت عنه كلما أحببته أكثر.. واشتقت إليه أكثر.. ذلك البلد الذي لن تكون كلمةقسري” لتفسير بعدي عنه.. بل ستبدو كلمة قسري قاصرة ومسطحة لوصف ما حملني وحمل الملايين غيري على اقتلاع أنفسهم من ذلك الوطن الذي صمدوا فيه لعقود صعبة، ثم جاء وقت صار الصمود نفسه يتطلب الصمود..

بصراحة، لم أكن مهيئاً للقاء فوق السحاب مع وطني… كنت أعتقد أن لقاء كهذا يجب أن يكون مرتبا، بإنذار سابق على الأقل، لكن يبدو أن أهم لقاءاتنا هي التي تكون بلا ترتيب ولا تخطيط..

جلست أراقب الشاشة باستسلام، كنت أتمنى حقا أن لا يحدث اللقاء.. أن تعدل الطائرة من خط سيرها وتمضي إلى خط آخر أبعد، أن يخطفها أحدهم لأي سبب ولا يطلب سوى أن نذهب بعيدا.. شرقا أو غربا، لا فرق.. المهم أن نصل إلى دبي دون أن نمر بذلك الترانزيت الاستثنائي..

لم تختطف الطائرة، بل وجدت نفسي مختطفا – مكمما و مقيدا- للشاشة وهي تقترب رويدا رويداً من المجال الجوي لوطني.. كنت أراقب الصورة الافتراضية للطائرة على الشاشة، وكانت مقدمتها تقترب أكثر فأكثر، و بدت حافتها المدببة كسكين يخترق تلافيف وأحشاء ذاكرتي.. بدت تلك الرحلة العجلى من واشنطون إلى دبي كما لو أنها ستكون رحلة داخل تاريخي الشخصي وغير الشخصي، من هنا بالضبط قبل أن ندخل في المجال الجوي العراقي، من منطقة “ديار بكر”، جاءت أسرة والدتي قبل قرون، قبل أن يكون هناك حدود ترسمها بالمسطرة “المس بل” القادمة من عاصمة الضباب أيام كانت لا تغرب عن إمبراطوريتها الشمس.. وكانت ديار بكر تضم ذلك الخليط العرقي الذي كان دوما سر القوة والتميز في العراق: مزيج العرب والأكراد والأتراك.. (لا أدري لِم يفترض الآن العكس!).. وعندما جاءت الأسرة إلى بغداد مع السلطان مراد الرابع في القرن السابع عشر تبغددت تماما حتى اندثرت حكاية ديار بكر، و لم يعرف قط ( ولن يعرف قط بطبيعة الحال !) إن كانوا عربا أو تركمانا أو أكرادا.. حتى لو تم فحص أثر السلالة بالحامض النووي لن يؤدي ذلك إلى أية نتيجة، فالمنطقة كلها كانت بوتقة انصهرت فيها الأعراق التي منحت للعراق عزه وقوته أيام كان له ذلك.. شاء قدر خط سير الرحلة أن يجعلني أمرُّ بذلك أولاً قبل أن ندخل المجال الجوي العراقي كما لو أنه يذكرني بحقيقة شخصية وغير شخصية في الوقت نفسه..

دقائق وظهر في الشاشة أننا دخلنا المجال الجوي العراقي، من النافذة نظرت إلى الغيوم وقلت لنفسي إنها غيوم عراقية وإن بدت تشبه سواها.. كنا فوق الجزء الذي لا أعرف إن كان سيبقى أو سينفصل من بلادي والذي أعرف أيضا أني أحتاج إلى ما يشبه التأشيرة إن كنت أريد الدخول و المكوث..

دقائق أخرى وحلقنا فوق الموصل، وأحسست بدمي يغلي منتشيا بالأمر كما سيفعل كل موصلّي يفخر بذلك حتى لو لم يكن قد وطئ أرض الموصل بأطراف قدمه!.. هنا استقر أجدادي بعد مجيئهم من الجزيرة العربية، وهنا ضربوا بجذورهم وإنجازاتهم.. لم يأتوا مهاجرين بالضبط، بل استقدم أول من جاء منهم من قبل الدولة العثمانية التي أرادت أن تكرس المذهب الحنفي وتقويه في مناطق نفوذها.. وكان جدي الأكبر فقيها على المذهب الحنفي في الحجاز، ولهذا السبب أو سواه نجح الأمر وكرس المذهب فعلا، لكن أجدادي الذين نقلوا المذهب الحنفي إلى أهل الموصل أخذوا منهم بالمقابل مذهبهم و” “تموصلوا”" جدا بكل ما في ذلك من نقاط قوة وغير ذلك… أخذوا منهم ذلك الإحساس بالتميز والتفوق والجدية الذي يميز أهل الموصل عن سواهم والذي يجعلهم يؤمنون أحيانا بأنهم الأفضل في كل الأحوال، و كيف لا وهم يؤمنون أن آدم هبط في الموصل، وأن سفينة نوح استقرت في الموصل و ان القرية التي نفعها أيمانها في القرآن هي الموصل! هذا الإحساس بالتفوق الذي قد يساء فهمه أحيانا هو الذي يجعلهم في الوقت نفسه يملكون الدافع للتميز والتفوق.. وهو الذي يجعلهم يتميزون ويتقنون فعلا.. ويتمسكون بموصليتهم حتى لو كانوا لم يروا الموصل أصلا..

(كنت في العاشرة من عمري ، و لم أكن أذكر أي شيء عن زيارة واحدة قمنا بها للموصل وكان عمري دون الرابعة قطعا، جاء ضيف عربي صديق لوالدي، وتبرعت له بتلك المعلومة: نحن من الموصل لكننا نسكن بغداد!..

نظرت لي والدتي -البغدادية منذ خمسمائة عام كما تقول!- شزرا وشرحت للضيف: والده أيضا ولد في بغداد ولا يتقن غير البغدادية لهجة للحديث، لكنهم لن يكفوا عن قول أنهم من الموصل !..).

لم أعرف الموصل حقا إلا بعد ذلك بسنين طويلة عندما درست في جامعتها، أحببت المدينة دون أن يكون لأصلي ونسبي علاقة بالأمر،لم يكن حبي لها من النظرة الاولى كما حدث مع الشام مثلا ، بل كان حبا عقلانيا جدا ، بالطريقة الموصلية التي تحسب لكل شئ حساب ، انتبهت إلى أن تحفُّظ أهلها الخارجي الذي يعده البعض برودا يخفي صدقا وإخلاصا نادرا على المدى البعيد، ثم انتبهت إلى أن هذا التحفُّظ لا يعدو أن يكون سورا خارجيا تورثه المدينة لسكانها كجزء من إتقانها الصمود بوجه الغزاة، فهمت أن الكثير من الصفات اللصيقة بأهل المدينة تشكلت عبر هذا الصمود المضيء الذي جعل المدينة قلعة حصينة بوجه الغزو الصفوي، وهو حظ لم يسعف بغداد المنكوبة بموقعها الجغرافي الذي جعلها أكثر انفتاحا وهو ما سهل دخول الغرباء الذين لم ينصهروا حقا في بوتقة التبغدد بل حاولوا إعادة تكوينها بحسب موروثاتهم التي جلبوها معهم شرقا أو غربا..

في الموصل، في سنتي الجامعية الوحيدة فيها، صارت لي الفرصة لترك طبقتي الاجتماعية التي ولدت فيها والنزول إلى هموم الناس الحقيقيين الأكثر بساطة والأقل تعقيدا..

هناك في الموصل، تعرفت على زملاء لي يتشارك عشرة منهم في إيجار شقة واحدة، كل خمسة ينامون في غرفة، و يتشاركون في مدفأة واحدة (في الزمهرير الموصلّي) بحيث تبقى المدفأة لمدة ساعة في كل غرفة بالتناوب.. لم يكن ممكنا بالنسبة لي أن أنسجم مع طبقتي الأصلية في بغداد عندما أعود في عطلة نهاية الأسبوع، حيث كان اصدقائي يمارسون تناوبا من نوع آخر : الذهاب إلى نادي العلوية في جمعة ونادي الصيد في الجمعة التالية..!

سوسيولوجيا الموصل، إذن، أعادت تكوين سايكولوجيتي! (أو ربما جعلتها أقرب لما يجب أن تكون).. وهكذا تفعل المدن العريقة بك دوما عندما تفهم سر عراقتها وقوتها (وليس عندما تتغنى بالأناشيد والقصائد الفارغة في حبها).. إنها تجعلك تفهم سر قوة المدن أو ضعفها.. وبالتالي تفهم سر قوتك أو ضعفك..

(ربما كانت “عواطفي المقننة” هي حصتي من الإرث الموصلّي في عروقي، حيث التقنين في الموصل هو نتيجة لتجارب حضارية متراكمة، بينما اللاتقنين هو الصفة البغدادية الأكثر ظهورا و الذي هو الآخر نتيجة لتجارب حضارية مختلفة: اللاتقنين في كل شيء.. حبا أو كرها، أنه إما منتهى الرعاية أو قصر النهاية، بلا منزلة بين المنزلتين!)

على الشاشة كان الطريق إلى بغداد يبدو واضحا، الأربعمائة كيلومتر التي تركت بصماتي عليها في كل مرة نزلت إلى بغداد أو صعدت فيها إلى الموصل في تلك التجربة التي تبدو الآن كما لو كانت تدريبا مبكرا وبسيطا على الغربة التي سأحترفها لاحقا كما ملايين العراقيين الذين عاشوا لعقود في منزل واحد وحي واحد ومع نفس الأصدقاء والجيران.. ثم صاروا يبدلون عناوينهم كل ستة أشهر من مدينة إلى أخرى ومن حي إلى آخر.. بدا لي أن الشاشة تحكي نسخة أخرى من” قصة مدينتين” ، على ارتفاع 37 ألف قدم..

أفهم جيدا أن أهل الموصل قد لا يستسيغون ” تبغدد” من ترك الموصل وسكن بغداد، وأنهم لن يغفروا ولن ينسوا قط كيف أن لساني -على سبيل المثال- قد تبغدد ولم يعد فيه أي أثر من “القاف” الموصلية المميزة.. ربما لأنهم لم يقتربوا بما فيه الكفاية منقصة مدينتين”.. لا أقصد هنا رواية تشارلز ديكنز، بل “قصة مدينتين” التي تعيش في كل من ورث قيم المدينتين العريقتين.. لا أقصد هنا بالإرث مجرد الانتساب، فكم من متمسك بلهجة مدينته باع كل وطنه جملة وتفصيلا، بل أقصد فهم ووعي إرث هذه المدينة والحرص على قيمها.. عندما يمتزج إرث المدينتين العريقتين معاً، تصير “قصة مدينتين” هذه ملحمة للبحث عن المعاني حتى في الأشياء اليومية الصغيرة.. بل يصير التنافس بين قيم المدينتين داخل “الوارث” دافعا ومحركا للإبداع والإتقان..

وأنا في ذلك الترانزيت في السماء بين الموصل وبغداد، تذكرت “قصة مدينتين” التي كانت والدتي تتندر أنها عاشتها في يوم واحد.. كانت تقصد رحلة مكوكية قامت بها بين بغداد والموصل من أجل أن تجلب لي بعض الأغراض عندما درست في الموصل.. كان ذلكتدليلا بغداديا” قامت به والدتي لوحيدها، كما تقوم الأمهات في بلادنا بلا حدود أحيانا، لم أكن “ابنها المفضل” كما يقال بل كنت بطريقة ما “الوحيد الذي توسمت فيه أن يحقق حلمها الغامض الذي لا تعرف كنهه هي بالذات”.. لم يكن تدليلها دعما للذكر بطريقة تقليدية، بل كان دعما وإسنادا يفوق ذلك بكثير.. أقول ذلك وأقر بخطورته، فالمسافة بين ذلك وبين الإفساد قد تكون غير محسوسة.. قصة نجاتي من هذا (إن كنت نجوت تماما!) ليس هنا مجال طرحها، لكني أعرف تماما أن بعض أهم ما أمتلكه جاء من هذه المنطقة الخطرة التي يختلط فيها الدعم والإسناد بالتدليل الذي قد يؤدي إلى الإفساد..

(أخذتني مرة من المدرسة إلى المتحف العراقي، أذكر تماما انه كان يوم خميس، و كنت في التاسعة أو دونها، في قاعة الفن السومري وأمام واجهة زجاجية لبعض المنحوتات وقفنا وأشارت إلي: ما الذي تراه مميزا في هذا ؟.. كان مجسما منحوتا لعربة صغيرها تجرها ستة خيول.. كطفل في التاسعة وجدت أن الخيول الستة هي أكثر ما يثير اهتمامي.. فقلت فورا: الخيول؟ خيبت أملها!… قالت لي: انظر كم هي صغيرة هذه الخيول والعربة، ورغم صغرها فهي متقنة.. وهذا أصعب من نحت تلك التماثيل الكبيرة في القاعات الأخرى.. بل إنهم ما كانوا سيتمكنون أصلا من نحت ما هو كبير إن لم يتقنوا ما هو صغير..)

اهتمامها بالتفاصيل الصغيرة - كان ولا يزال -جزءا أساسيا من نظرتها لكل شيء، بالذات من نظرتها النقدية لكل شيء، تلك النظرة النقدية التي كثيرا ما تصل حدود الصدام عندما يتعلق الأمر بالأشخاص.. الأمر بالنسبة لها ينتهي بالأسود أو الأبيض.. ( والأسود غالبا !)

بطريقة ما، أخذت منها هذا: أخذت علاقة الجزء بالكل، و التفاصيل الصغيرة بالكليات الكبيرة، سواء كنت أكتب عن آية قرآنية كريمة .. أو عن مشاهدة يومية لحدث قد يبدو عاديا، أو عنها شخصيا، فإن كل ذلك لا بد أن يمر بذلك الربط الذي يمنح للتفاصيل معنى جديداً ومختلفاً.. إن كنت أمتلك أية ميزة على الإطلاق فإن هذا ربما يكون الأهم..

من والدي أظن أنني ورثت الدأب والإصرار اللحوح، ذلك الدأب الذي جعل أحد أصدقائه يقول مازحا “ما ضاع حق وراءه خيري ..”.. ولولا هذا الدأب لبقي ما أخذته عن والدتي مجرد أفكار وملاحظات وتأملات في أحسن الأحوال لا تتحول إلى مشروع حقيقي..

(ولم يكن ممكنا لذلك كله أن يكون مجديا لولا اقتراني بتلك المرأة- البوصلة التي كانت أهم ما حدث لي منذ الإسلام.. والتي سأبقى أقول إني لم أنتج أي شيء قبلهاوالتي كانت هي الأخرى نتيجة مباشرة لملحمتين.. لطبعة أخرى من “قصة مدينتين”.. وبإحداثيات مختلفة قليلا.)

بغداد إذن، ممثلة في أمي البغدادية منذ خمسة قرون أعطتني هذه الرؤية التي تربط الجزء بالكل، و”الموصل” ممثلة بأبي أعطتني الدأب وهذا الإحساس اللحوح بضرورة الإنجاز، بكون “شجرة الأسرة” وجذورها العريقة ونسبها ليست إلا مسؤوليات إضافية يجب أن نكون على قدر تحملها.. وإلا تحولت – كما حدث فعلا مع الكثيرين من أفراد أسرتي من الجهتين ومن سواهم- إلى سبب أجوف للغرور و التعالي الفارغ على الآخرين بالذات .. بل وإلى عذر لعدم الإنجاز او الإنجاز الخاطئ.. ( البعض منهم ، أقولها بلا تردد ، لا يستحق سوى المصحة ! )

وبين بغداد والموصل، كما بين كل مدينتين عريقتين، يمكن لـ”قصة مدينتين” أن تكون ملحمة تجعل حياتنا تثمر حقا.. أن تساهم في جعل كل منا “شجرة مثمرة” بدلا من أن نستظل بشجرة نسب ليست “لا تسمن ولا تغني من جوع” فحسب بل قد تتحول ثمارها إلى سم زعاف إذا استخدمت كمخدر يلهينا عن مواجهة ما يجب مواجهته..

بدت لي الفكرة الأخيرة ملخصا ليس لتاريخي الشخصي.. بل لتاريخ أمتنا كله بطريقة ما.. فقد تحول تاريخها العظيم عند البعض إلى وسيلة للخدر وللتهرب من مواجهة الحاضر وتحمل أعبائه.. هل يمكن أن يكون ذلك صدفة، أن يمر ذلك كله في بالي وأنا فوق الرقعة الجغرافية التي فيها أهم ثمار نهضة الحضارة الإسلامية.. هل يمكن أن يكون ذلك صدفة؟ أن تكون عاصمة دولة الخلافة هي التي تواجه ما تواجهه اليوم مما لا أطيق الخوض فيه في هذه اللحظة..؟ هل هذه الرحلة مباشر من واشنطون إلى دبي حقا أم أنها رحلة ترانزيت في تاريخ مستمر؟ هل هي رحلة مباشرة أم أنها رحلة ترانزيت بكاملها في ذلك التداخل الحتمي بين ما هو شخصي وحميم وبين ما هو تاريخي وجماعي.. بين التفاصيل الصغيرة وبين الصورة الكاملة..

دقائق وصرنا فوق بغداد..

(آه بغداد.. أزم على شفتي وأنا لا أرى سوى الغيوم التي تغطي سماءك.. أحبس دمعة سرية أحاول كثيرا أن أقمعها ولكنها تستطيع أن تقمعني في الكثير من الأحيان.. بغداد.. ثلاث سنوات على الرحيل والغربة.. ربما ليس عدد السنوات كبيرا بالنسبة لعمري.. لكنه أكثر من ربع عمر أولادي.. وأكثر من نصف عمر صغيرتي أروى.. بغداد.. قرار الرحيل كان صعبا.. لكني لم أدرك قط كيف أن ما هو أصعب من الرحيل سيكون قرار العودة المؤجل دوما.. ثلاث سنوات فقط ولكن العالم كله تبدل فيها.. عالمي بالذات تغير بطريقة ما كنت أتخيلها يوم رحلت عنك..)

رحبت بي بغداد بطريقتها: ما إن صرنا فوقها حتى دخلت الطائرة في مطبات جوية.. أنيرت الأضواء الحمراء وتراكضت المضيفات وطلب الكابتن أن نشد الأحزمة.. ابتسمت في سري رغم الدمعة المقموعة.. وددت لو أقول لهم أن لا يقلقوا.. لا بد أن سماء العراقيين مثلهم: إنهم يثورون بسرعة ويرعدون، ولكنهم في الغالب “يخمدون بسرعة، وعندما يخمدون يتكشف مزاجهم الناري عن قلب في منتهى الطيبة.. ( سيقول الجزء الموصلّي مني إن ذلك في الحالتين يحتاج الى تقنين! )..

تساءلت في سري إن كانت هذه المطبات البغدادية تحية لي من بغداد.. أو عتباً.. أو لوماً… تساءلت إن كانت رسالة حب لي على الطريقة البغدادية.. تساءلت إن كانت هذه الرسالة تحمل توقيع “المنصور” حيث ولدت وحيث عملت وحيث لا تزال لافتة عيادتي موجودة في مكانها دون أن أكون أنا.. ربما كانت هذه المطبات تحمل توقيع ساحة الحرية حيث مرطبات الفقمة التي ولد ابني بعد أن جلبت لأمه نوعها المفضل “بالفستق..!”.. ربما كانت تحمل توقيع الصليخ حيث “كلية بغداد” الثانوية الأعرق التي أشعر أن جزءا مني ما زال فيها بطريقة ما، أتناقش مع آزر وأمير وأحمد ونور الدين وعلاء وجمال ونحل مشاكل العالم كله بثقة أبناء السادسة عشرة بعقولهم ( لا يوجد اثنان منهم اليوم في بلد واحد! و لكن رحلة الترانزيت هذه جمعتهم في ذاكرتي)..

ربما كانت الرسالة من “زيونة”.. من جامع “القزازة”.. أو من جامع “الزهاوي” في ساحة الأندلس.. (ستكون رسالة عتب حتما..).. ربما كانت من “بارك السعدون”.. من بيتي الذي لم يكن البيت الأفخم ولا الأضخم، ولكنه كان بيتي.. كان “البيت”.. وبعده لم تعد المنازل إلا شققا مستأجرة (هاتفني برايان: هل أنت في البيت حتى نتحدث عبر النت؟.. قلت له دون تفكير: البيت؟؟ طبعا لا! أنا في هذه الشقة المستأجرة..).. وكانت بعض هذه الشقق المستأجرة أكثر أمانا - لي ولأولادي - من بيتي.. وكان بعض أصحابها أكثر حنوا علي من أهلي.. ولكن ذلك البيت يبقى “البيت”..

ربما كانت تلك المطبات هي من “أفياء النخيل”.. تمتد وتطول حتى تصلني وأنا في الطائرة فوق الغيوم.. تجعلني أقول مع لميعة[ii]  في غربتها “بعيد فَيّ النخلوالغرََّبوك بعاد” ( بعيدة هي أفياء النخيل.. لكن من غرّبك أيضا بعيد)..

ربما في النهاية كانت مجرد مطبات، مجرد ظاهرة فيزيائية لا علاقة لها بكل تداعياتي الشعرية.. ربما كانت بغداد (مثل كل المدن العريقة) لا تكترث حقا لمن يغادرها وقت الأزمة.. لأنها لا بد أن تنهض ولو بعد حين، رغما عن كل توقعاتنا وتوقعاتهم ومخططاتنا ومخططاتهم.. ربما يكون “الحين” بعيدا جدا.. لكنه لا بد أن سيأتي..

كما كل مرة، قلت لنفسي إني عائد إلى بغداد ولا بد.. بالضبط “وعدتُ” نفسي أني سأحاول ذلك.. أني في أقرب فرصة سأمنح الفرصة لجذوري أن تمتد في تربتها الأصلية.. أن لا أموت غريبا في بلاد غريبة.. وأن لا يدفنني غرباء لم يعرفوني منذ طفولتي..

وعدتُ نفسي أني سأعطي نفسي تلك الفرصة: فرصة أن أدفن بالقرب من والدي.. ربما كتعويض عن حقيقة أني لم أتمكن من زيارته في قبره منذ أن دفنته ( بسبب مرور الطريق إلى المقبرة في مناطق ساخنة اعتبرت كجبهة قتال رغم أنها في بغداد).. بلى ، لقد زرته مرة واحدة فقط ..يوم دفنَا بالقرب منه ابن خالتي المقتول ظلماً. ظلماً. ظلماً

لم يكن ذلك عقلانيا على الإطلاق: أعرف جيدا أنه لا أهمية لجغرافية الدفن بقدر أهمية تاريخية الإنجاز.. لكن أمام حقائق كبيرة كالموت ربما التفكير لا يكون عقلانيا جدا.. خاصة عندما تكون في رحلة ترانزيت على ارتفاع 37 ألف قدم تواجه فيها تاريخك كله.. (و هل حياتنا الدنيا في النهاية إلا رحلة ترانزيت من المهد إلى اللحد ولكنها رحلة ترانزيت تحدد موقعك الأبدي اللاحق..؟)..

انحرفت الطائرة باتجاه معين وزادت حدة المطبات كما لو أن بغداد تعترض على اتجاه الانحراف… وربما كان الأمر لا معنى له إطلاقا لكن خيالي الذي يربط الجزء بالكل مولع بإيجاد المعاني..

حملت كل ذلك إلى من زرعه أصلا في داخلي: إلى والدتي التي وضعوا لها حديدا ليجبر كسرها.. وهم لا يعلمون أن معدنها الحقيقي أصلب من أي حديد يمكن لهم استعماله..

هي الآن بخير والحمد لله، لكني أطلب منكم أن تدعوا لها بالشفاء العاجل كطفل مذعور يخشى أن لا يعود حضنها مضمونا كما كان دائما..

شيء آخر أخير: أعتذر من قرائي في دولة الإمارات الحبيبة الذين تربطني بهم آصرة استثنائية لأني مررت دون الاتصال - بكل ما يمثل ذلك من إهانة لكرمهم وضيافتهم- فقد كان مروري عاجلا وشبه سري لكل الظروف الشخصية السابق ذكرها، عذري الوحيد أني آتي لأزورهم فعلا مع كل سطر أخطه ..هم وكل قرائي الآخرين سواء كانوا في أرض الحرمين التي أودعت قلبي أمانة عند حمامة في حرمها الشريف ، أو بيروت التي تخرج دوما من رمادها، أو المحروسة مصر بقاهرتها واسكندريتها و شرقيتها، أو بلد المليون شهيد ، أو أولئك الذين يعلموننا فن الحياة في سجون الاحتلال.. أو أولئك الذين احتضنوني بلا حدود في جنة الأرض بلا خلاف: الشام..

و طبعا قرائي العراقيين في ذلك البلد البعيد الذي سأظل أحب[iii] …

و الذين يعاملونني بالضبط كما هو متوقع منهم : إما منتهى الرعاية أو قصر النهاية..

و الذين سأظل احبهم ، ليس بالرغم من ذلك ،..بل ربما بسبب ذلك..

·  المنصور : منطقة في بغداد- الكرخ ، اطلقت على اسم الخليفة العباسي ابي جعفر المنصور الذي بنى بغداد.

[ii] لميعة عباس عمارة : شاعرة عراقية من جيل الرواد في الشعر الحديث. صارت تجمع بين الفصحى و العامية منذ عقد السبعينات. تعيش غربتها في سان دييغو – كاليفورنيا..

 [iii] “البلد البعيد الذي تحب” عنوان لمجموعة قصصية لكاتبة عراقية رائدة هي ديزي الأمير.. أستعير عنوانها هنا وأستميحها العذر.. محمد الهاشمي - دافي الجرح